مراكز توزيع المساعدات في غزة مصائد قتل لطالبيها
صحيفة هآرتس الإسرائيلية: أوامر رسمية لجنود الاحتلال لتعمد القتل....عدد شهداء غزة يفوق 100 ألف...

لوبوان تي ان :
على مدار الشهر الماضي، فتحت قوات العدوان الصهيوني في قطاع غزة النار بشكل شبه يومي على طالبي المساعدات الذين يصطفون للحصول على الطعام من “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF)، وهي منظمة لتوزيع الغذاء مدعومة من الولايات المتحدة وكيان العدوان الصهيوني. وقد أسفرت هذه الهجمات عن استشهاد أكثر من 549 شخصًا وإصابة أكثر من 4 آلاف آخرين حتى الآن، خلال تسعة عشر حادثًا منفصلًا.
منذ البداية، كان واضحًا أن هذا المستوى من القتل الجماعي اليومي ناتج عن سياسة متعمدة تقضي بإطلاق الرصاص الحي، وقذائف الدبابات، وقذائف الهاون على حشود من طالبي المساعدة، بهدف تحويل نقاط توزيع الطعام إلى ساحات قتل في إطار الإبادة الجماعية المستمرة.
يوم الجمعة (27 يونيو الجاري) ، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريرًا معمقًا يدعم وجود أوامر صريحة تُعطى للجنود الإسرائيليين بإطلاق النار على الحشود. وداخليًا، تُبرر هذه المجازر رسميًا باعتبارها “وسيلة للسيطرة على الحشود”، حيث يقوم الجنود بنقل مجموعات من المدنيين العزل من مكان إلى آخر عبر إطلاق النار عليهم. وذكرت الصحيفة أن عدد شهداء الابادة الجماعية التي ترتكبها قوات العدوان الصهيوني في غزة نحو مئة ألف شهيد وهو رقم يعكس مجمل ما خلُص إليه الباحثون في سياق التقديرات المستندة إلى المسح والوفيات غير المسجّلة رسميًا.
ونقلت الصحيفة عن باحثين قولهم إن عدد الشهداء في غزة، كما أوردته وزارة الصحة الفلسطينية، يقلّل من الحجم الحقيقي للأزمة. فالجوع، والمرض، ونيران الجيش الإسرائيلي على مراكز توزيع الغذاء، جعلت هذه الحرب في القطاع من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين.
يوم الإثنين من هذا الأسبوع، نشرت وزارة الصحة التابعة لحماس في قطاع غزة قائمة محدثة بأسماء القتلى في الحرب، وهي عبارة عن جدول من 1227 صفحة، مرتّبة من الأصغر سنًا إلى الأكبر. تتضمن الوثيقة، المكتوبة باللغة العربية، الاسم الكامل للمتوفى، واسم الأب والجد، وتاريخ الميلاد، ورقم الهوية.
على عكس القوائم السابقة، توضح هذه القائمة أعمار الأطفال بدقة، وخصوصًا من هم دون عمر السنة وقت مقتلهم. محمود المرانخ وسبعة أطفال آخرين ماتوا في نفس اليوم الذي وُلدوا فيه. أربعة أطفال آخرين قُتلوا في اليوم التالي لميلادهم، وخمسة آخرون عاشوا ليومين فقط. ولا يظهر اسم أول طفل تجاوز عمره ستة أشهر عند مقتله إلا في الصفحة 11، بعد إدراج 482 اسمًا.
تغطي أسماء الأطفال دون سن 18 عامًا ما مجموعه 381 صفحة، ويبلغ عددهم الإجمالي 17121طفلًا. ومن بين إجمالي عدد القتلى البالغ 55202 شخص، كانت 9126 منهم من النساء.
يرفض المتحدثون باسم الحكومة الإسرائيلية، والصحفيون، والمؤثرون الإسرائيليون، بيانات وزارة الصحة الفلسطينية باشمئزاز فوري، زاعمين أنها مبالغ فيها ومضخّمة. لكن المزيد من الخبراء الدوليين باتوا يؤكدون أن هذه القائمة، على الرغم من هول ما تتضمنه، موثوقة — بل وقد تكون متحفّظة جدًا مقارنة بالواقع.
البروفيسور مايكل سباغات، أستاذ الاقتصاد في كلية هولواي بجامعة لندن، يُعد خبيرًا عالميًا في توثيق الوفيات في النزاعات العنيفة، وقد كتب عشرات المقالات حول الحروب في العراق وسوريا وكوسوفو وغيرها. هذا الأسبوع، نشر هو وفريق من الباحثين الدراسة الأكثر شمولًا حتى الآن حول الوفيات في قطاع غزة.
وبمساعدة الدكتور خليل الشقاقي، عالم السياسة الفلسطيني، قام الفريق بمسح شمل 2000 أسرة في غزة، تضم ما يقارب 10000 شخص. وخلصوا إلى أنه، حتى يناير الماضي، استشهد نحو 75200 شخص في غزة جراء العنف، الغالبية الساحقة منهم بفعل القصف الإسرائيلي.
وقال أحد الجنود الذين قابلتهم هآرتس إن الإشراف على توزيع الغذاء من قبل القوات الإسرائيلية كان يُشار إليه داخليًا باسم “عملية السمك المملّح”، في إشارة إلى النسخة الإسرائيلية من لعبة الأطفال “ضوء أحمر، ضوء أخضر”، وهي على ما يبدو مستوحاة من المسلسل الكوري “لعبة الحبار (Squid Game)”، حيث يُجبر المتسابقون على لعب لعبة الأطفال ذاتها، ويُطلق عليهم الرصاص الحي إذا تحركوا قبل الإشارة.
يومياً، وغالبًا في وقت متأخر من الليل أو في الصباح الباكر، يصطف عشرات الآلاف من الأشخاص عند مواقع توزيع GHF لتلقي الطعام، الذي لا يتوفر إلا لمدة ساعة واحدة فقط، مما يؤدي إلى اندفاع فوضوي من الجياع.
وبحسب التقرير، لا توجد أي وسيلة للسيطرة على الحشود سوى الرصاص الحي. فأي شخص يحاول جمع الطعام—الذي يُترك ببساطة على الأرض—في وقت مبكر أو متأخر، يُطلق عليه النار.
وقال أحد الجنود: “إنها ساحة قتل”. وأضاف: “في المكان الذي كنت متمركزًا فيه، كان يُقتل ما بين شخص وخمسة يوميًا. يُعاملون كقوة معادية—لا وسائل للسيطرة على الحشود، لا غاز مسيل للدموع—فقط نيران حيّة بكل ما يمكن تخيله: رشاشات ثقيلة، قاذفات قنابل، هاونات. ثم، بمجرد فتح المركز، يتوقف إطلاق النار، ويعرف الناس أنه بإمكانهم الاقتراب. وسيلة التواصل الوحيدة هي إطلاق النار.”
وقال جندي آخر: “أطلقنا النار من مدافع الدبابات، وألقينا القنابل.”
وأوضح الصحفي نير حسّون، أحد معدي التقرير، لقناة الجزيرة: “في الحقيقة، الأمر عبارة عن ممارسة… للسيطرة على الحشود بالنار. إذا أردت أن تهرب الحشود من مكان معين، تطلق النار عليهم، حتى وإن كنت تعلم أنهم غير مسلحين… أنت تستخدم النار لتحريك الناس من نقطة إلى أخرى.”
بعبارة أخرى، كل ما يتعلق بعمليات توزيع الغذاء مصمم بشكل محسوب لقتل المدنيين العزل، تحت ذريعة تقديم المساعدة. وكأن قصة مسلسل “لعبة الحبار”، التي تُصوَّر على أنها رياضة دموية مرعبة من أجل تسلية الأثرياء، أُعيد إنتاجها على هيئة “عملية إنسانية”.
التفاصيل التي نشرتها هآرتس تؤكد التحذيرات الصادرة عن جميع وكالات الإغاثة الإنسانية الكبرى، بما في ذلك الأمم المتحدة ومنظمة أطباء بلا حدود (MSF)، بأن “مراكز المساعدة” ليست سوى جزء من عملية تطهير عرقي تقودها إسرائيل في غزة.
تهدف هذه المراكز إلى تركيز السكان في جنوب القطاع، تمهيدًا لنقلهم إلى معسكرات احتجاز يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، كخطوة تمهيدية لطرد الفلسطينيين من غزة بالكامل. ويتماشى ذلك مع خطة تطهير عرقي وضعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتبنّاها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وفي بيان صدر يوم الجمعة، وصفت منظمة أطباء بلا حدود عمليات GHF بأنها “مجزرة متنكرة في هيئة مساعدات إنسانية.”
في وقت سابق من هذا الأسبوع، حذّر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من أن “نموذج عمل المؤسسة يعتمد على استدراج المدنيين إلى مواقع محددة بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، حيث يتعرضون للقتل والإصابة والمعاملة القاسية والمهينة.”
وأكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، أنّ الفوضى المتفشية في توزيع المساعدات «ليست حالة عفوية أو طارئة، بل نتيجة هندسة إسرائيلية متعمدة هدفها تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني وزرع بذور الصدام الداخلي».
ونقلت صحيفة «الأخبار» اللبنانية عنه قوله «منذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أنّ هدف مؤسسة (غزة الإنسانية) لم يكن تقديم الإغاثة الحقيقية، بل خلق فوضى مجتمعية».
وأشار إلى أنّه «يتم توزيع كميات قليلة من المساعدات على أعداد هائلة من المحتاجين، دون تنظيم أو شفافية أو رقابة، ما أدّى إلى تدافع وصدام بين الناس، وفتح المجال أمام ظهور عصابات منظمة تسرق المساعدات من الأهالي وتعيد بيعها في الأسواق بأسعار باهظة».
وأوضح الثوابتة أنّ هذه العصابات «لا تتحرك بشكل فردي أو عشوائي، بل تستغل البيئة التي صاغتها الآلية الإسرائيلية الأميركية عمداً، في ظل غياب الحماية، وإدارة الأمور في الهواء الطلق، بعيداً عن المؤسسات الإنسانية الرسمية كالأونروا أو الهلال الأحمر».
وشدّد على أنّ مراكز المساعدات هذه تحولت إلى «مصائد للموت» أودت بحياة المئات من سكان غزة، لافتاً إلى أنّ جيش الاحتلال قتل، منذ نشأة هذه المراكز في أواخر أيار الماضي، أكثر من 500 شهيد وخلّف ما يزيد على 3500 مصاب، «كانوا جميعاً لا يريدون سوى إطعام أطفالهم”
واعتبر أنّ «إسرائيل، عبر هذه الفوضى، تسعى إلى خلق بيئة صراع داخلي يُستنزف فيها الفلسطيني ضدّ الفلسطيني، وتُنتزع فيها الثقة من بين الناس. فهم لا يريدون فقط تدمير المباني والبنية التحتية، بل يسعون إلى تمزيق النسيج المجتمعي من الداخل” ولفت إلى أنّ «الحل يبدأ بإعادة الإشراف على المساعدات إلى الجهات الدولية المختصة، ووقف العبث السياسي الإسرائيلي بالقوت الإنساني»، مطالباً المجتمع الدولي بموقف حاسم «لوقف هذا الانهيار الأخلاقي والإنساني“
وقبل يوم واحد فقط من نشر تقرير هآرتس، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن حكومة ترامب قدّمت 30 مليون دولار من التمويل لمؤسسة GHF. ووصَف المتحدث باسم الوزارة، تومي بيغوت، أنشطة المؤسسة بأنها “رائعة بكل المقاييس”، معلنًا أنه “يجب الإشادة بها ودعمها.”
وفي ما يبدو أنه تأكيد ضمني لتقرير هآرتس، أعلن الجيش الإسرائيلي فتح تحقيق داخلي في جرائم حرب تتعلق بعمليات إطلاق النار في مراكز المساعدة. وكما هو الحال دائمًا، لا تهدف هذه التحقيقات إلا لتلميع الصورة العامة، وخلق وهم بالمحاسبة، بينما يُترك مرتكبو الجرائم دون عقاب.
وفي بيان مشترك يوم الجمعة، اتهم نتنياهو ووزير الدفاع إسرائيل كاتس صحيفة هآرتس بنشر “فرية دم” ضد الجيش الإسرائيلي، واصفين إياه بأنه “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.”
وفي حادث منفصل، قتل الجيش الإسرائيلي 18 شخصًا خلال توزيع مساعدات تديره الشرطة الفلسطينية. وأفاد شهود عيان بأن العديد من الضحايا كانوا من المدنيين العاديين الذين جاؤوا لجمع الطحين.
وقال المكتب الإعلامي الرسمي في غزة يوم الجمعة أن طالبي المساعدات اكتشفوا حبوبًا تحتوي على مادة الأوكسيكودون، وهي مادة أفيونية قوية وقاتلة، داخل أكياس الطحين التي تم توزيعها من مراكز GHF. وجاء في البيان: “قمنا حتى الآن بتوثيق أربع شهادات من مواطنين عثروا على هذه الحبوب داخل أكياس الطحين”، محذرًا من “احتمال أن بعض هذه المواد المخدّرة قد تم طحنها أو إذابتها عمدًا داخل الطحين نفسه.”
وفي بيان له، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عمليات GHF في غزة بأنها “غير آمنة بطبيعتها”، مضيفًا: إنها تقتل الناس… يُقتل الناس لمجرد أنهم يحاولون إطعام أنفسهم وعائلاتهم. يجب ألا تكون رحلة البحث عن الطعام حكمًا بالإعدام.”
واشنطن-محمد دلبح