أحداث

بين الحماية والاحتلال: ” مَن يَعتَذر.. يَتّهِمُ نَفْسَه”

لوبوان تي ﭑن:

لقد أثارت بعض التصريحات الصحفيّة للسيد رئيس الجمهورية قيس سعيّد اثناء زيارته  لباريس جدلا واستياء عميقا في نفوس أغلبية التونسيين عند حديثه عن الحقبة الاستعمارية لبلادنا، حيث أجهد نفسه في إيجاد تبريرات لا مقبولة ولا معقولة، لا في الزمان ولا في المكان، يُفهم من خلالها إقراره بعدم مسؤولية الدولة الفرنسيّة في كل ما حدث في بلادنا من سنة 1881 إلى 1963، منطلقا من تفسيره الخاص لمفهوم الحماية والاحتلال. الغريب في الأمر هو أن الكثير من النخب الفرنسية أنفسهم يعتبرون تلك الفترة من تاريخ الدولة الفرنسية مخجلا، بما فيهم الرئيس ماكرون نفسه الذي أعرب في الجزائر منذ ثلاث سنوات عن شعوره بالخجل من الممارسات الاستعمارية لدولته إزاء الشعوب المستعمرة. فالسيد رئيس الجمهوريّة التونسيّة بحديثه حول المطالبة بحق الاعتذار من مستعمر يؤمن بمبد ا تواصل الدولة، لم يجرح مشاعر التونسيين الأحياء فحسب، وإنما أهان الذاكرة الوطنيّة وأساء ـ من حيث لم يشعر ـ للشهداء والأجيال التي ناضلت من أجل استرجاع سيادة الوطن. سيادة بوّأت السيد قيس سعيّد هذه المكانة والمكان، والحال أنه أقسم بالمُقدّس على رعاية مصالح تونس والتونسيين، وتاريخ تونس هو جزء من مصالحها فلا يجوز التعسف عليه. إن استياء التونسيين لم يكن بسبب عدم مطالبة رئيس الجمهوريّة الدولة الفرنسية بالاعتذار، فهذا أمر قد يتحمّل فيه البرلمان والمجتمع المدني التونسيين الوزر الأكبر، لكن خيبة الأمل كانت في التفسير غير الموضوعي لحقبة من تاريخ تونس وذلك بتأكيده أمام العالم، أنها حماية ولم تكن احتلالا للأرض واستلابا للسيادة من قِبَل الجمهوريّة الفرنسية الثالثة والرابعة.. فلا يجوز حسب رأيه الخلط بين وضع “الحماية” و”الاحتلال”. إلا أن المثير للغرابة أكثر، أن بعض النخب من الفرنسيين أنفسهم من أهل الاختصاص، هم أكثر وضوح في تفسيرهم لمفهوم نظام الحماية وكل أشكال الاستعمار أكثر من السيد قيس سعيّد أستاذ القانون.
إنّ نظام الحماية ـ كما يُعرّفه المؤرخون وأهل الاختصاص ـ الذي عرفه العالم نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين خلال التوسع الاستعماري: “هو شكل من أشكال الهيمنة، يقوم على الازدواجيّة الإداريّة والتوزيع غير المتكافئ للسلطات بموجب اتفاقية أو فعل انفرادي بين دولة قوية على دولة ضعيفة”
فنظام الحماية ونظام الانتداب الذي أقامته عُصبة الأمم لتطبيقه على الأقاليم التي انتُزعت من ألمانيا وتركيا بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1919)، هما نظامان استعماريان شكلا ومضمونا، لكنهما أقل تكلفة على الدول الاستعماريّة من الاحتلال بالضم ولا تزال فرنسا تستعمل هذا النوع متمثلا في شكل نظام “ما وراء البحار” للمحافظة على محمياتها في القارة الأمريكية وغيرها.
إذن، فعلى أي حماية يتحدث السيد رئيس دولتنا؟ إذا ما علمنا أن الحماية التي لا توجب الاعتذار هي تلك التي تكون بطلب من الدولة المحميّة نفسها وليس الحماية التي تُفرض عليها بقوة السلاح. فهل استنجدت المملكة التونسيّة سنة 1881 بالدولة الفرنسية حتى يمكننا أن نفرّق بين الحماية والاحتلال؟ إن التاريخ يروي لنا حيثيات وتفاصل توقيع معاهدة الحماية سنة 1881 التي تحت تهديد السلاح واحتلال الجيش الفرنسي جزءا من البلاد قبل التوقيع لفرض الأمر الواقع على الدولة التونسية. إن فرض الحماية الفرنسية على الإيالة التونسيّة كان نتيجة ضعف الدولة التي نخرها الفساد وأنهكتها المديونيّة. فمنذ منتصف خمسينات القرن التاسع عشر، تنامى الحضور للدول الأوروبية وتدخلها المباشر في وشؤون الحكم عبر قناصلها. كما تزايد عجز الميزانيّة التّونسيّة الذي قُدّرت قيمته سنة 1860 بـ 1.739.125 ريالا بسبب كثرة الاختلاسات للمال العمومي من قِبَل دوائر الحكم، فعجزت الدولة عن تسديد لديونها الخارجية التي بلغت آنذاك 350 مليون ريال (125 مليون فرنك) ووُضِعَت حينئذ الخزانة التونسية تحت الوصاية الدولية سنة 1869.
قبل فرض توقيع المعاهدة بأيام قليلة من قبل الدولة الفرنسية، اجتازت فيالق من قواتها العسكريّة يوم 24 أفريل 1881 التراب التونسي قادمة من الجزائر وعددها 24.000 جندي بقيادة الجنرال فورجمول***. تمكّنت هذه القوة من إخضاع كامل جيوب المقاومة الشعبيّة التي تصدت لها في أرياف وقرى ومدن الشمال الغربي التونسي. تبعها أيضا بعد أسبوع احتلال مدينة بنزرت في الأول من شهر ماي 1881 من قِبَل 400 جندي من البحريّة الفرنسيّة. وفي صباح يوم الخميس 12 ماي دخلت الجيوش الفرنسية منّوبة ورابطت قرب القصر السعيد. وفي نفس اليوم على الساعة الرابعة ظهرا دخل القنصل العام لفرنسا بتونس “روسطان” والجنرال “برايار” على الباي. ثم تقدم الجنرال لتلاوة على الصادق باي نص المعاهدة، عوض القنصل ذو الصفة المدنيّة، في مخالفة للأعراف الدبلوماسية. وفي هذا دلالة على فرض الأمر الواقع على الدولة التونسية بالقوّة وليس تفاوضيّا بالدبلوماسيّة…. طلب الباي منحه يوما للتشاور مع حاشيته، لكن القنصل “روسطان” رفض ولم يسمح له إلا بسويعات معدودة لا تتجاوز الأربع ساعات، قائلا له في تهكم: “إنّ جميع بنود المعاهدة وقعت المناقشة فيها مع وزيركم الأكبر مصطفى بن إسماعيل”.( الطابور الخامس) وعند الساعة السابعة مساء أمضى الباي معاهدة الحماية مستسلما. و للإشارة ليس في نص المعاهدة من تعهّد بالحماية لصالح تونس إلا لعائلة الباي حيث نص البند الثالث من الوثيقة نصا صريحا على ذلك:” قد التزمت دولة الجمهورية الفرنساوية بأن تعين وتعضد على الدوام حضرة رفيع الشأن باي تونس لمنع جميع الأخطار التي تهدد ذاته وآل بيته أو التي تكدر راحة عمالته.” وأحسب أن هذا البند نفسه هو الذي منع بورقيبة من محاكمة آخر العنقود من العائلة الحسينيّة محمد الامين باي بعد خلعه سنة 1957.
لم تكتف فرنسا بعدها بمعاهدة 1881التي وقعها محمد الصادق باي، وإنما اجهزت بعد سنتين على ما تبقى من صلاحيات الحكم في اتفاقية ثانية في مدينة المرسى في 08 جوان 1883 التي أمضاها علي باي دون نقاش أو اعتراض حيث ينص بندها الأول:” لما كان الباي أن يسهّل للحكومة الفرنساوية إتمام حمايتها تكفّل بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي ترى الحكومة المشار إليها فائدة في إجرائها. هكذا أصبحت الدولة الفرنسية بموجب هذه الاتفاقيّة تسير شؤون الدولة تسييرا مباشرا (على غرار البلدان المحتلة كالجزائر) عبر المقيم العام الذي يضبط جميع السياسات، بإدارة جلّها من الفرنسيين وليس للباي إلا الموافقة والتوقيع على ما يقدمه له ممثل الدولة الفرنسيّة في المملكة. وبقي الوضع على ما هو عليه إلى غاية 20 مارس 1956 حيث ألغت وثيقة الاستقلال معاهدة باردو سنة 1881. فهل نصت الوثيقة أيضا على إلغاء وثيقة اتفاقية المرسى لسنة 1883 الأشد خطورة أم لا؟ هذه مهمة المؤرخين وأهل الاختصاص في القانون المحمولون على ذلك.

 الناشط السياسي محمد العماري



.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى