أحداث

ما بين الشتائم والرقص والقبلات… لماذا تشبهنا الاحتجاجات في لبنان؟

كتب فايد بدرانة الباحث والكاتب الفلسطيني المقيم في القدس في موقع رصيف 22 اليوم:

تتوالى الفيديوهات المصورة الآتية من لبنان من كل حدب وصوب. من طرابلس، من صيدا وذاك من صور، ومجموعة فيديوهات من النبطية ومقاطع أخرى كثيرة من بيروت.

أرتعش، يقشعر بدني، أحزن، أبتسم وأضحك. أحتار أي فيديو أشارك على صفحتي… هل أشاركها جميعها؟! معقول كل هذه الفيديوهات تمثلني؟! أو لربما معظمها يمثلني؟! أو هل من المعقول أن المئات والآلاف يشاركون نفس الفيديوهات لكل هذه الاحتجاجات التي تنمو وتزهر كل خمس دقائق، خلال ساعات النهار والليل؟! ما هو سرّ لهفتنا؟ ما هذا السحر في “الانعجاق” الجميل من انتفاضة اللبنانيين وشكل احتجاجاتهم في أكتوبر 2019؟!

أبحث عن مفاتيح الحب في أماكن أخرى تتجاوز السياسة وصور الإطارات المحروقة والمطالب الاجتماعية والأصوات المناهضة للطائفية. لا بدّ أن هناك أشياء أخرى. أجد المفاتيح معلقة على جدار الـ “أنا”، الإنسان الفرد، في مجتمع محافظ كبير وعلى جدران الـ “نحن”… المجتمع الكبير الذي يهيمن على لغة الإنسان الفرد، على خطابه وتلقائيته.

نعتاد في حياتنا العامة على تخبئة أحلامنا ورغباتنا، نخبئ علاقاتنا ونخبئ شتائمنا المُعلنة. نخبئ قبلاتنا، ونخبئ الفقر وحالنا العسير ونختصر الحديث عن بيوتنا وديوننا، وعن جمالنا. في اجتماعاتنا، في محاضراتنا، في مظاهراتنا، في أعراسنا، في سهراتنا غالباً ما تغيب “الأنا” الحقيقية و”النحن” الحقيقية. نظهر في “بدلات”، نتحدث بخطاب يتناسب مع القاموس الاجتماعي، نتحدث بلغة لا تصطدم مع المألوف العام، نصيغ عباراتنا وجملنا لتحظى بقدر كبير من الإجماع.

والأهم أن تكون شعاراتنا وأغانينا وأحلامنا المعلنة بعيدة عن خدش ما يسمى الحياء العام، رغم أن “العام” في الحقيقة، هو ركام وحطام لنفسيات مرهقة ومتعبة.

خلف جدراننا وداخل بيوتنا، تتحرّر لغتنا البذيئة، نشتم دون خجل ونشتم بوقاحة ونهين البعيد والقريب، داخل بيوتنا نعتاد على البوح لأنفسنا بواقعنا المر.

أما في الخارج، نحاول تقديم صورة جماعية معاكسة تماماً: مجتمع محافظ وميسور الحال ومكانته الاقتصادية الشخصية جيدة: “مزبط حالي”، “مش ناقصنا شي”، ليس من باب التواضع وإنما من باب اللحاق بركب السوق الاستهلاكية الرأسمالية المتوحشة.

ثقافة الـ “عيب” تهيمن على الكثير من تلقائيتنا وبالتالي على تعابيرنا السلوكية وأنماطنا الانفعالية، وعندها تتحول الشتيمة/ العيب المختبئة داخلنا إلى قنبلة حقيقية قاتلة، حين تطلق في المكان العام المشحون بالعداء والتنافس والعنصرية والطائفية، وملوث بالطبقية. نعم في بلادنا يقتل الإنسان بسبب الشتيمة، لكن يصطنع لغة مهذبة لوصف رداءة الواقع وتلطيفه.

في لبنان، وفي احتجاجات لبنان، لا مكياج للمجتمع، لبنان الفضائيات الوهمية، يغيّب سراب جنون برامج الترفيه ويغيّب فانتازيا الحياة الرغيدة. في احتجاجات لبنان لا مسرحيات في اللغة. في لبنان يشتمون في العلن كما نشتم في حياتنا الخاصة. الفضاء العام يستوعب الشتيمة، هي ليست بالعيب الخطير، ولا تتحول سيفاً يضرب الأعناق. نعم نبتسم ونضحك حين نشاهد ڤيديو تحتوي على: “كلمات يقال انها بذيئة ” موجهة للسياسيين في سياق هبة الاحتجاج الحالية، البذاءة تطالهم جميعاً، لأن المواطن العربي يحمل داخله غضباً كبيراً على السياسيين المسؤولين عن الواقع البذيء..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى