أحداث

سعيدة قراش: الباجي في شخصه منتوج تونسي خالص “الضمار” و الواقعية …

لوبوان تي ن:

رثت سعيدة قراش الناطقة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية في تدوينة لها على صفحتها الرسمية الباجي قايد السبسي الانسان والسياسي ورجل الدولة الذي بدا عظيما وانتهى عظيما وخرج من الباب الكبير للتاريخ وفيما يلي نص تدوينتها :”

حتى لا أنسى…. شهادة للتاريخ و لهذا البلد المعطاء و شعبه الطيب. سيدي الرئيس، احتضنك تراب هذا الوطن البارحة و كان بك حنونا. و ضمّتك أرضه التي وَطَأْتَ و عَشِقْتَ. و إلْتَحَفْتَ العَلَمَ الذي تَوَشَّحْتَ. و زَفَّتْكَ نساء تونس بالزغاريد مَحَبَّةً و عرفانا كما بكاك رجالها الكاظِمينَ لِلْألَمِ و المُكَابِرين للزمن الا في عشق الوطن. شعبك ودعك بالأمس ليتلقَّاك الرفيق الأعلى و تضمك حبات الرمل و هيبة النهاية.

في الأثناء، نُلَمْلِمُ حزننا و نتطلع للوطن فالمتربصون كُثر لكنهم الى زوال بفضل شعب أراد و يريد الحياة، و لابد أن يستجيب له القدر.

قضيت سبع سنوات في العمل بقربك بين الحزب و الرئاسة، و أخالني غير قادرة على إيفائك حقك لما حوته من زخم و ثراء بحلوها و مرها و بهزاتها و تكثفها. فقط سأحاول ، و في اطار تقديم الأهم على المهم ، و أرجو أن أوفق، ان أختزل ما لا يجب نسيانه أو طمسه في إطار تداخل الذاتي بالموضوعي و ما أصعب الأمر.

– الباجي قايد السبسي ، في تقديري المتواضع، و في شخصه في حد ذاته، هو تجسيد لتراكم تاريخ و أجيال لمختلف المراحل في تاريخ تونس المعاصر منذ البايات مرورا بالاستعمار الى مرحلة تأسيس الدولة الجديدة و حكم بورقيبة، ثم فترة بن علي وصولا الى الثورة و ما تخلل كل ذلك.هذا البعد كان يمكن أن نعيشه في شكل قطيعة مؤلمة و حتى عنيفة بالمعنى الفلسفي للكلمة. و كان يمكن ايضا ان تكون تعبيراته السياسية مدمّرة و سلبية، لكن الباجي قايد السبسي كانت له القدرة على تكثيف و اختزال هذه التراكمات و توظيفها إيجابيا ليبرز و يُعْلِي ما هو مُؤَسِّسٌ لمجتمع جديد و ثقافة سياسية جديدة، و في هذا المعنى شكل جسرا و رابط بين مختلف هاته المراحل التاريخية. فقد مكننا من الاستفادة من كل هذه التراكمات الإيجابية و توظيفها لمشروع مستقبلي تقدمي و ديمقراطي.

– كانت للرجل ، بفضل خبرته و حنكته في هذا السياق، القدرة على التعامل مع الفكر السلطوي السائد في المجتمع السياسي التونسي بمختلف أصنافه، و ترويضهم في اللعبة الديمقراطية منذ ان كان على رأس الحكومة و ذلك رغم مقاومتهم و هو أمر عادي ، لكنه نجح فيه. و قد ساهم خاصة بعد الثورة ، باعتبار هاته الميزة، على المساعدة في توسيع الطبقة السياسية بما أنه أعطى دورا للأطراف التي لا ترى نفسها الا في المعارضة أو مقصاة بحكم الثورة، و ذلك في إطار سمح للجميع بإكتساب قدرات سياسية تخدم المشروع الوطني.

– يمكن اختزال النقاط التالية في شخصه، في السياسة هناك قـِيَم تبقى صلبة و البوصلة ثابتة و لكن المراوغة و المناورة و التكتيك و الاستراتيجيات يجب ان توظف في ذلك الإطار و ليس للانقلاب على القيم. لذلك كانت البوصلة دائما هي تحقيق ، نهائيا، ثقافة مجتمعية و سياسية ديمقراطية مع ارساء مساواة حقيقية و تامة في إطار اعتقاد راسخ بوجوب تكريس مدنية الدولة و الانخراط نهائيا في التاريخ المعاصر للشعوب و الأمم.

– من الميزات الخاصة و الضرورية التي كان يتمتع بها هي الصبر و الحكمة. فهو يعطي الوقت للزمن donner le temps au temps و يحسن اختيار الوقت المناسب للإعلان عن القرارات أو المبادرات الهامة. اما الحكمة فهي تكمن في القدرة على تشريك أطراف في تنازع جوهري و ترويضهم لصالح المشروع الوطني. و هذا يتطلب قدرة على مخاطبتهم و معرفة ما تعطي و ما تأخذ منهم دون التخلي على الأساسي و الجوهري بالنسبة للمشروع الوطني الذي آمن به. فالصرامة كانت ايضا مبدأ أساسي بالنسبة له في إدارة اللعبة السياسية مع ترك هامش للمناورة ضروري للوصول الى النتيجة التي يحددها مسبقا.

– هو يسير الأشياء بمرونة و اعتدال دون التنازل عن الأصل في الأشياء، معتمدا الواقعية كمبدإ في تقدير الأمور و التعامل معها. فالايديولوجيون يعتقدون دائما ان هناك حقيقة خفية و مخفية عن الجميع لا يدركها غيرهم و دورهم هو حمل الناس اليها أو عليها بحسب المرجعيات، فهم وحدهم يدركون السبيل اليها في الحياة و يعرفونها. اما الواقعيين فانهم يعتمدون دائما السياق و الإطار الذي تجد فيه الأمور و تحدث فيه الأشياء و بالتالي يأخذون بعين الاعتبار ميزان القوى و ما تسمح به من تحقيق ما نعتقد أنه الأفضل، كما ان هذا الأفضل لا يمكن ان يحتكره طرف بذاته سواء عينه الإله أو الأيديولوجيا بل إنه لا يتحقق الا عندما تتقاسمه الأغلبية كهدف مشترك و هو ما يميز الباجي عن غيره.

– الباجي في شخصه منتوج تونسي خالص، الضمار و الضحكة و خبث الأطفال و حب الحياة و القلب الطيب و الحنون و لكن ايضا الاعتدال و الصبر و نبذ العنف و الواقعية و عدم التنازل عن الأساسي و الأصل في الأشياء.

– شخصيا ، واكبته و عملت معه عن قرب لمدة سبع سنوات، كنت خلالها دائما أتساءل كيف لي ان أصالح الماضي النضالي مع المقاربة السياسية الجديدة لتحقيق ما كنت اعتقد فيه من قيم إنسانية و سياسية؟

كان يمكن ان أسلك احد المسارين، و يتعلق الامر بشخصي لا غير، إما مسار مواصلة القطيعة و اعتبار الدولة العدو الدائم في إطار الخلط بين النظام السياسي القائم و الدولة باعتبارها استمرارية و قوة للشعب أو المسار الثاني و هو الوعي بأن الثورة أتت بقطيعة مع النظام القائم لا الدولة، و أنه لتحقيق الأهداف السياسية و المجتمعية و كذلك الاجتماعية يتم الاعتماد على الدولة من حيث هي استمرارية و قوة للشعب. و قد دفعني ذلك للقيام بالمراجعات اللازمة خاصة عندما أعطاني الباجي ، كغيري، فرصة للعمل صلب الدولة و المشاركة في بناء مستقبل جديد لمشروع الدولة الوطنية العادلة و الديمقراطية و المدنية و المساوية بين مواطنيها و مواطناتها.

في الأخير، تونس ولادة، لها طاقات و زعماء ، فيهم من غُدر بهم و هم شهداء لهذا الوطن و فيها من رحلوا و كلاهما أحبهم شعبهم بقدر إخلاصهم للوطن و فيهم من ينتظر فرصته ليجد مكانه تحت الشمس و مؤكد لا اقصد شمس هذه القيلولة الحارقة لهذا اليوم.

أتمنى السلامة لهذا الوطن و العزة لشعبه.

هاجر واسماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى