أحداث

في يوم عيد المرأة الدكتور عميرة علية الصغير يكرم المشروع الإصلاحي للطاهر الحداد

 

. الحجاب “كمامة على فم كلب”

 في يوم عيد المرأة أهدى الدكتور عميرة علية الصغير نصا من كتابه في التحرّر الاجتماعي و الوطني” تطرق ضمنه لمشروع الحداد لتحرير المرأة والمنهج الذي اعتمده في عرض أفكاره التحررية للمرأة انطلاقا من النص الديني وإعادة قراءة أحكامه اعتبارا للتطوّر ومحتّمات الزّمن والحياة فإن منظوره النّهضوي العام يخرج عن المرجعيّة الدّينية ويندرج ضمن اجتهاد عقلاني وضعي لا يقيم اعتبارا إلا للمنطق والعقل والعلم ويحدوه في ذلك أمل التحرّر الاجتماعي والوطني كمقصد وهدف وضعه لنضاله الفكري والاجتماعي والسّياسي وقد حدد الطاهر الحداد مواقفه الإصلاحية لتحرير المرأة في مؤلفه امرأتنا في الشريعة والمجتمع  منها  تعدد الزوجات ,موقفه من الحجاب ,إمكانية التساوي في الميراث بين المرأة والرجل وهذا النص حرفيا ꞉.”

مشروع الحدّاد لتحرير المرأة
يمثل كتاب الحدّاد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (1930) تتويجا في تطوّر الفكر الإصلاحي التّونسي ودرجة متقدّمة في إدراك واقع المرأة التّونسية آنذاك والمجتمع بأسره. الطّاهر الحدّاد هو ذاك المثقّف أصيل حامة قابس ولد بالحاضرة (1899) في عائلة متواضعة، تحصّل على شهادة التّطويع من الزيتونة سنة 1920 ودرس الحقوق سنتين ومنع من اجتياز امتحانها بأمر من مدير العدليّة. انخرط في العمل الوطني منذ شبابه إذ كان أحد العناصر النشطة في الحزب الحر الدستوري التونسي منذ 1920. كان رفيق محمد علي رائد العمل النّقابي الوطني بتونس اشترك معه في تكوين “جمعية التّعاون الاقتصادي” في جوان 1924 وخاصة في تأسيس جامعة عموم العملة التّونسية (ديسمبر 1924). اختلف مع قيادة الحزب الدستوري لموقفها المتخاذل من النقابة العمّاليّة ومحاكمة النقابيين سنة 1925 وعدم جديتها في الدّفاع عن القضيّة الوطنية. وهب بقيّة حياته مناضلا بالكلمة والقلم في خدمة التّحرر الوطني والاجتماعي. توفي في 7 ديسمبر 1935 بتونس ضحيّة التّزمت وتآمر الأعداء عليه.
فما هو مشروع الحدّاد للرّقي بالمرأة وتحرّرها ؟
في الواقع ينزّل الحدّاد أفكاره التّجديدية ومشروعه النّهضوي الشامل في ما أكد عليه في كتاباته من ضرورة مسايرة الاتجاه العام والمحتّم لحركة التطوّر التاريخي وليس إدارة الظّهر لها والانزواء والانكفاء على الماضي نقدّسه. يقول : “إن تيّار الحضارة الغربية يجرفنا رجالا ونساء إلى مصبّه رغما من خلق الرياء الذي يحملنا على العطف والتّحنن إلى قديمنا الذاهب ولا ينجينا من ذلك مجرّد التأفف والاستعاذة اللذين اعتدنا أن نكتفي بهما في كل ما يلم بنا من حوادث”( ). في رأيه أن حركة تحرير المرأة حركة لا مردّ لها بحكم هيمنة أسلوب العيش الأوربي والتّمدن. “إننا مهما بالغنا في إنكار ما للمرأة من حق وما لنا في نهوضها من نعمة شاملة فإنها ذاهبة في تيار التطوّر الحديث بقوة لا تملك هي ولا نحن لها ردّا” يقول في موضع آخر ( ). ولذا حسب الحدّاد توجّب تسليح المجتمع برمّته ومنه المرأة بالأدوات الفكرية والمعرفية وتوفير الشروط الاقتصادية الضرورية لمسايرة حركة التاريخ للانبعاث وإلا كان الفناء.
ويضع الحدّاد نفسه خارج منطق تيّار المصلحين الدّينيين فهو لئن بسط أفكاره التّحرّرية للمرأة انطلاقا من النّص الديني القرآني وإعادة قراءة أحكامه اعتبارا لما يقتضيه التطوّر ومحتّمات الزّمن والحياة فإن منظوره النّهضوي العام يخرج عن المرجعيّة الدّينية ويندرج ضمن اجتهاد عقلاني وضعي لا يقيم اعتبارا إلا للمنطق والعقل والعلم ويحدوه في ذلك أمل التحرّر الاجتماعي والوطني كمقصد وهدف وضعه لنضاله الفكري والاجتماعي والسّياسي. كما أن تحرير المرأة ينزّله الحدّاد في إطار منظوره العام لتحرير المجتمع والوطن. تحرير الوطن من الاستعمار وتحرير المجتمع من الاستغلال والتّسلط وعدم المساواة ومن الجهل والفردية القاتلة. ويعتقد الحدّاد راسخا أن تخلّف مجتمعه ووهنه واستعباده من المستعمر يعود في أحد أسبابه الأساسية إلى ما وضع فيه نصفه أي نساءه من مهانة وذلّ وانتقاص وتعطيل لكل قدراتهن لذا رأى الحدّاد أن شرط التّحرر الأول والخلاص الجماعي هو في النهوض بالمرأة وتحرّرها باستعادة إنسانيتها عن طريق التعليم والعلم والتربية السّليمة التي سوف تغرسها بدورها في أبنائها بناة التّحرر المنشود ( ).
وترتكز أفكار الحدّاد الإصلاحية لتحرير المرأة على مجموعة من المواقف عبّر عنها في مقالاته وأشعاره وخاصة في مؤلفه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” نوردها موجزة هنا

بالمرأة إفحام خصوم الإصلاح والنّهوض
يستنجد الحدّاد لتغليط معارضي الإصلاح وللإقناع بوجوب تحرير المرأة بمنطق التاريخ السّائر في اتجاه حريّة المرأة أولا وثانيا استنادا لفلسفة الدين وروحه إذ يعتقد الحدّاد أن النص القرآني متجدّد ومتطوّر وأن الأحكام الواردة فيه ليست نهائية بل هي وقتية تعبّر فقط على مستوى نضج المجتمع العربي زمن نزول الوحي وإن غاية الإسلام الكمال لذا وجب أن يتغيّر النّص كلما تغيّرت الحياة والواقع. ومن هذا يستمدّ الحدّاد اعتقاده في مرونة الشريعة وخلودها. وهذا الرأي كان أحد حجج خصومه في اتهامه بالكفر. وهذا التأويل بنى عليه الحدّاد فكره إذ يقول: “لقد رأيت بعين اليقين أنّ الإسلام بريء من تهمة تعطيله الإصلاح بل هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب وما كان انهيار صرحنا إلاّ من أوهام اعتقدناها وعادات مهلكة وفظيعة حكّمناها في رقابنا”( ).
المرأة مساوية للرّجل ومؤهلة للنهوض بأعباء الحياة
عكس ما كان متداولا عند أغلبية أهل عصره من اعتقاد في نقصان المرأة “عقلا ودينا” بالنّسبة للرّجل يردّ الحدّاد أن ذاك مجرّد ادعاء حتى وإن وجدت اختلافات فهي نتيجة حرمان المرأة من العلم والتجربة الاجتماعية وليست من جوهر المرأة. يقول، “وفيما أرى أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفّرت الوسائل الموجبة (…) لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرّجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل مبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توفر أسبابها بتطوّر الزّمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التّامة وروح الحق” ( ). ويشكّك الحدّاد في صحّة الحديث المروي على النبيّ “النساء ناقصات عقل ودين” ويفترض حتى إذا سلّمنا بصحته انّه لا يدرى أكان يحدّثنا به عن أصل تكوين المرأة في جوهرها –ولا دليل على ذلك من لفظ الحديث- أو هو يعبّر عن حالتها في تلك العصور يعتذر عن بعض هفواتها لسائله أو لسامعه” ( ). والحدّاد خلافا لمعاصريه وحتى الإصلاحيين منهم يرى أن المرأة مؤهلة لتولّي كل الوظائف في الدّولة والمجتمع ومهما كان العمل عظيما إذ يعتقد أن ليس في القرآن ما يمنع ذلك. ( ).

المساواة أمام الزّواج ومناهضة تعدّد الزّوجات
يرفض الحدّاد ما كان يعتبر شرعا في عهده من حق الولي في تزويج منظورته ابنته أو غيرها فهو يطالب بأن يكون الزّواج اختيارا بين الرجل والمرأة وذلك إقرار بأهليّة الأنثى في اختيار شريك حياتها ويطالب برفع الوصاية عن المرأة. يقول ضد سلب المرأة حق اختيار زوجها: “عوض ذلك اخترنا أن نطمس بصيرتنا لنسلبها حق الاختيار بحجّة قصورها ونعطيه لغيرها من الآباء والأوصياء. وكم من الآباء من جعلوا زواج بناتهم قربانا للوجاهة والوظائف واستبدال المال أو حتى ضحيّة الغلط السّاذج وإتباع العادات كتزويجها من ابن عمّها أو من شيخ زاوية مهما بعد استعدادهما عن التناسب” ( ).
أمّا في تعدّد الزّوجات فقد كتب الحدّاد : “ليس أن أقول بتعدّد الزوجات في الإسلام لأنّني لم أر للإسلام أثرا فيه وإنّما هو سيّئة من سيّئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجية” ( ). ولم يجز الحداد تعدّد الزوجات حتى في حالة مرض الزوجة الأولى كما قال ذلك النصير الأوّل لتحرير المرأة قاسم أمين. كما أنّ براهين الحداد في مناهضته للتعدّد لم تقتصر فقط على المانع الشرعي أي استحالة العدل بين الزّوجات بل أنّ منطلقه كان إنسانيا أي أنّه كان يعتبر المرأة والرّجل متساويين في القيمة الإنسانية ومن هنا كان تعريفه للزّواج بأنه “عاطفة وواجب وازدواج وتعمير” ( ) وهو ما يتناقض عموما عند أهل عصره من علماء وعامة من اعتبار الزواج عقد تمتيع رجل مقابل مهر بمفاتن امرأة حتى وإن غلّفوا ذلك بعدّة اعتبارات فقهيّة.
الحجاب “كمامة على فم كلب” وحائل بين الرجل والمرأة
يناهض الحدّاد الحجاب بما أنّه يرى من حق المرأة التمتّع بالحياة وبالجمال والخروج للحياة العامّة فهو يعتبره ليس من الإسلام في شيء : “إنّ الحجاب الذي نقرّره على المرأة كركن من أركان الإسلام سواء مكثها في المنزل أو وضع النقاب على وجهها ليس من المسائل التي يسهل إثباتها في الإسلام بل ظاهر الآية يرشد إلى نفيه لما في ذلك من الحرج المضني. وممّا يجعلنا نقطع بعدم وجوده في الإسلام” ( ). ويشبّه الحدّاد النّقاب على وجوه النّساء منعا للفجور “بالكمامة على فم الكلاب كي لا تعضّ المارين” ( ). ومن الحجج التي يسوقها الحدّاد ضد الحجاب هي أنّه حائل للتّعارف الضّروري لنجاح الزّواج بين المرأة والرّجل وأن الحجاب دفع بكثير من الشباب المسلمين للبحث عن الزّوجة السّافرة من الأجنبيّات والحجاب يعطّل المرأة في إثبات حقوقها أمام المحاكم وتصريف شؤونها وتنمية ثروتها الذي يتطلّب الاختلاط بالنّاس وربط العلاقات ممّا يعرّض المرأة للزّور والتّدليس وخداع الوكلاء وأنّ الحجاب ليس ضامنا للعفّة فهو حسب الحدّاد : “لم يمنع اتّجاهها إلى جهات أخرى بتأثير العامل الطبيعي بل قد كان من أهمّ العوامل في انتشار اللّواط والمساحقة والعادة السريّة” ( ). والحجاب يمنع المرأة من القيام بوظيفتها التربوية لأبنائها بما أنّه يمنعها من الخروج للإطّلاع على الحياة والمشاركة في الأنشطة الثقافية ومعرفة بلدها، ويمنعها كذلك من الخروج للتعلّم واكتساب الخبرة الاجتماعية الضّرورية لإدارة شؤونها اليوميّة. ثم أنّ الحجاب وحبس المرأة في المنزل له تأثير على صحّتها الجسميّة والنّفسية بما أنّها تحرم من الرياضة البدنية والنّفسية الواجب القيام بأعبائها لتكتمل شخصيّتها.
 الحدّاد مع السّفور لا الفجور
يؤكّد الحدّاد أنّ السّفور الذي أتى مع التمدّن الغربي هو يستجيب للحاجيات النّفسية والجنسيّة للرّجل والمرأة وأنّه منتشر لا ريب فيه “إنّ السّفور آخذ في الازدياد بلا ريب سواء تذمّرنا أو لم نتذمّر وسواء اتّجهنا لتعليم المرأة كما يجب أو لم نتجه. غير أنّ اتّجاهنا هذا يخفّف كثيرا من هذا التطوّر السّاذج والخالي من أسباب الوقاية” ( ) ويردّ الحدّاد على من يدّعون أنّ الفجور هو نتيجة السّفور بأنّ عليهم لضمان طهارة المرأة أن نفرض على الرّجل أوّلا الطّهارة ونمنع تعدّد الزّوجات والزّواج بالإكراه وإطلاق يد الرّجل بالطّلاق لنحدّ من غيرة المرأة وانكسارها ( ) ويجب خاصّة الحدّ من ظاهرة الفقر التي يرى فيها الحدّاد أعمّ وأخطر أسباب انتشار الفجور. لكن الحدّاد في دعوته للسّفور هو ضدّ التبرّج والإغراء والابتذال في الطّريق العام. ويردّ على المتزمّتين “ما كان أحوجنا إلى الاتحاد في تعليم وتربية المرأة للنّهوض بها بدلا من هذا الجدال العقيم (حول الحجاب) الذي نملأ به أيّامنا العاطلة” ( ).

الحدّاد يؤمن بإمكانيّة التساوي في الميراث بين الرّجل والمرأة
انطلاقا من فهمه التطوري لأحكام الشريعة ومن إقراره بحق المرأة في العمل وإنتاج الثروة يقرّ الحدّاد –وهو من القلائل من دعاة تحرير المرأة في العالم الإسلامي الذين نادوا بالمساواة في الإرث بين الذّكر والأنثى- إنّ قاعدة “وللذّكر حظّ الأنثيين” ليست من ثوابت الأحكام. يقول في مؤلّفه “امرأتنا” : “في الحقيقة إن الإسلام لم يعطنا حكما جازما عن جوهر المرأة في ذاتها. ذلك الحكم الذي لا يمكن أن يتناوله الزّمن وأطواره بالتّغيير. وليس في نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى. إنّما الذي يوجد أنّه أبان ضعف المرأة وتأخرها في الحياة تقرير للحال الواقعة ففرض كفالتها على الرّجل مع أحكام أخرى بنيت على هذا الاعتبار وقد علّل الفقهاء نقص ميراثها عن الرّجل بكفالته لها. ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير” ( ).
 الحدّاد ينادي بإنشاء محاكم للطّلاق
ضمانا للمساواة بين الرّجل والمرأة وتفاديا لما كان يلحظه الحدّاد من استبداد الرّجال على النّساء وما وضعه الفقهاء من حق شرعي في أيديهم في حريّة تطليقهم لزوجاتهم ومنع حق طلب الطّلاق على الزّوجة إلاّ بشروط يصعب توفيرها نادى الحدّاد بإحداث محاكم للطّلاق وكان مجدّدا في ذلك. يقول الحدّاد لتفادي تلاعب الرّجل بمصير المرأة ” أن لا علاج لدرء هذه الحالة إلاّ بوضع مبدأ تحكيم القضاء في كلّ ما يقع من حوادث الطّلاق والزّواج حتى لا يتمّ منهما إلاّ الموافق لغرض الشريعة ونصوصها” ( ). إنّ وضع الطّلاق بيد القاضي هو الكفيل وحده حسب الحدّاد برفع سيف التطليق المسلّط على رأس المرأة ويمنع انكسارها وذلّها وخوفها الدّائم على استقرارها ويحدّ من تعسّف الزّوج.
التعليم حق طبيعي للمرأة
يقرّ الحدّاد بأنّ التّعليم حق طبيعي للمرأة كما للرّجل “لا يحدّده غير المواهب الفطريّة واستعداد الإنسان” ( ) اعتمادا على العلم وحده الذي له “الأثر البيّن في معرفة أصول التّربية الفاضلة ومناهجها” حسب عبارته. وبناء على تصوّره للدّور الذي يجب أن تلعبه المرأة الجديدة في المجتمع كإنسان فاعل وقادر سيشارك في كل مجالات النشاطات والقيادة لم يقصر الحدّاد تعليم المرأة في نوع من العلوم ولا على درجة من التّعليم. فهو عكس كثير من معاصريه وحتى من الوطنيين الليبراليين لا يعارض تعلّم الفتاة في المدارس العموميّة ويرى أنّ تعليم المرأة يجب أن يمكّنها “من معرفة أصول دينها وتاريخه ولغة قومها وتاريخ بلادها وجنسها” وأن تتعلّم العلوم الرياضيّة والطبيعيّة “حتى يتثقّف عقلها بالمنطق ومعرفة الأشياء” وأن تتعلّم الرياضة البدنيّة لأنّ الرياضة قوّة للجسم ونشاط يعينان على النّشاط المعنوي، وتحسن مبادئ علم الصحة لتحسن تربية أبنائها وتعرف التّدبير المنزلي وتحسن الحرف والصّناعات للكسب وتتعلّم الفنون الجميلة كالشّعر والموسيقى والتّصوير لأن في “هذه الضّروب من الأدب أنشودة الرّوح للكمال وارتياض النّفس المترعة وغذاء العاطفة التي يقوم عليها بناء العائلة”. فالحدّاد يناشد النّشء ذكورا وإناثا على الإقبال على شتى العلوم من علوم الطبّ والحقوق وعلوم السّياسة والاقتصاد والعمران. فلا تمييز في رؤيته في طلب المعرفة
هذه أهمّ الأفكار الإصلاحيّة التي جهر بها الحدّاد سنة 1930 ممّا ألّب عليه المحافظين والرّجعيين وحاولوا قتل صوته في المهد. والمعركة التي خاضوها ضدّه معروفة وتناولها بالتّفصيل خاصّة الأستاذ أحمد خالد في مؤلّفه “أضواء من البيئة التّونسية على الطّاهر الحدّاد ونضال جيل” منذ 1967. ويكفينا هنا أن نذكّر بأهمّ حجج خصوم الحدّاد وخلفيات مواقفهم. في الواقع إن كانت أغلب النّخبة إضافة إلى العامّة كانت في صفّ الخصوم كانت هنالك قلّة من المثقّفين الشبّان والمصلحين الجريئين ساندوه أمثال الشّيخ سالم بن حميدة ورفيقه في النّضال أحمد الدّرعي والشّاعر الفنّان محمد العقربي والصحافيين أمثال عبد العزيز العروي والهادي العبيدي والشّعراء أبو القاسم الشابي ومصطفى خريّف… وكرّموه عند صدور كتابه في حفل بالبلفدير في 17 أكتوبر 1930. ولاقى مساندة الاشتراكيين الفرنسيين ورابطة الدّفاع عن حقوق الإنسان. أمّا قياديي الحزب الحر الدستوري من الشبان فكان موقفهم محتشما وإن عبّر الدّكتور الماطري عن تعاطفه مع الحدّاد في محنته فإنّه رأى أنّ طرح آرائه تلك ليست في إبّانها وأبدى احترازه من بعض ما أتى به الحدّاد كمسألة “الإرث” أو “تعدّد أزواج النبي” (
وقد تحامل على الحدّاد المحافظون ودوائر جامع الزّيتونة من شيوخ ومفتين وصحافيين وغيرهم ومن أشهر المؤلّفات التي كتبت في الردّ عن “امرأتنا في الشّريعة والمجتمع” كان كتاب “سيف الحق على من لا يرى الحق” (1931) لعمر بن إبراهيم البري المدني وكتاب الشيخ بالزيتونة محمد الصالح بن مراد “الحِداد على امرأة الحدّاد. أو رد الخطأ والكفر والبدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع”. وقد كالت كلّ هذه الكتابات شتى التهم للحدّاد حيث نعت بالجنون وبأنّه “الشيطان الرّجيم” (العبارة لبن مراد) وبادّعاء العلم “وهو جاهل” وإن الحدّاد “غايته من كتابه نشر الفسق والفاحشة” وأنّه متواطئ مع رجال الكنيسة لنسف الدّين الإسلامي ويكذّبون ما قال به الحدّاد في إمكانيّة التدرّج والتطوّر في أحكام الشّريعة ويرمونه بالكفر عندما ينادي بالمساواة في الإرث أو عدم جواز تعدّد الزّوجات وإقرار محاكم الطّلاق إضافة لشتمه بأقذع المذمّات ونعته بالجاهل والمدّعي والمجنون والزّنديق والكافر والخائن… ووصل العنف ضدّه إلى الاعتداء عليه جسديّا ( ) وقد توّجت حملة اضطهاد هذا المصلح المجدّد من المتزمّتين بتمكّن “نظارة الزّيتونة” من استصدار حكما يمنع رواج “امرأتنا في الشّريعة والمجتمع” وسحب شهادة التطويع من الحدّاد ومنع العمل عليه كعدل إشهاد. ورغم استنجاد الحدّاد بالمقيم العام في رسالة بعثها له في 15 نوفمبر 1930 لرفع المظلمة عليه فلم يلق جوابا إذ تحالفت سلطة الحماية مع الطبقة المحافظة شريكتها في إرساء السيطرة على المجتمع الأهلي على إسكات ذلك الصوت المصلح والمناضل الوطني والاجتماعي.
وفي الواقع إن الحملة على الحداد من معارضيه وخاصة من رجال الدّين الذين يسمّيهم رفيق الحداد أحمد الدرعي “بالاكليروس الإسلامي” كانت تحت غطاء الذود على الدّين لكن في الحقيقة كانت لمحو عار مواقف رجال الدّين والأعيان من وجودهم في بداية عام 1930 ضمن لجنة تنظيم المؤتمر الافخارستي ولم يحرّكوا ساكنا للدّفاع عن الإسلام أمام هجمة المسيحية كذلك أن هذه الطبقة من المدرّسين والمفتين والأئمة كانت أرستقراطية تتوارث المناصب والحظوة بالنسب (التدريس في الزيتونة، القضاء، الإفتاء،…) فكل عمل إصلاحي يخرّب مصالحها من الأساس ثم أنها تدّعي لنفسها حق احتكار تفسير الدّين والتوجيه الروحي للمجتمع فلم تقبل أن يأتي شيخ آفاقي ليغتصب حقّا تراه أبديّا ويتطاول على مقامها بوصف رجال الدّين بعدم الفهم والتّزمت والجهل ناعتا إياهم بالجمود والمحافظة وعبادة الماضي وادعاء القيادة الروحية للمجتمع دون حق وقدح في أخلاقياتهم في عديد من كتاباته الصحفية وأشعاره حيث يصفهم بالغرور والتباهي بالأنساب والأصول والصّلف والنفاق والارتزاق والجري وراء الجرايات والكسب والتمسّح على عتبات الحكام والمستعمرين والجبن في الإصداع بالحقيقة والتنمّر على دعاة الإصلاح ومحاصرة أفكار التجديد والنهضة وخيانة الوطن ( ).
ففعل المحافظين في الحدّاد هو من باب تصفية حساب مع عدو طبقي وفكري. وقد تفطنت سلط الحماية لغاية رجال الدّين في معارضتهم للحدّاد ورأت في ما أثاروه يخدم مصالحها بتلهية الرأي العام عن انتقاد السّياسة الاستعمارية وإجهاض فكر تحرّري اجتماعي يهدّدها مع الملاحظ أن كبار الاستعماريين وعبر جريدتهم “تونس الفرنسية” وقفوا ضدّ الحدّاد وساندوا المحافظين.
وكان موقف قياديي الحزب الدستوري لا يقل عنفا من الطّاهر الحدّاد إذ استغلوا فرصة الضجة حول الكتاب ليصفّوا حسابا مع هذا الشاب الذي وسمهم بالجبن بتخليهم على محمد علي ورفاقه سنة 1925 وانتقاده رقودهم عن العمل الجاد واستغلال وجاهة الحزب لجمع المال والإشهار لمهنهم كمحامين. فنعته هؤلاء بالوصولية والجري وراء الشهرة للحصول عن منصب وشككوا في وطنيته معتبرين خروجه من الحزب لخيبته فيما كان يطمع فيه من مال منه ( ). وكان بلاغ قيادة الحزب الدستوري الصادر بجريدة “النديم” في 11 جوان 1932 لا يقل تشهيرا بالحداد من موقف إكليروس الزيتونة جاء فيه: “إن الحملة التي يقوم بها بعضهم ضدّ الحزب وبعض رجاله البارزين منشؤها أن الحزب منذ نشأته يحرص على سلامة عقيدة الأمة من الخيانة والزيغ والإلحاد وقد اندفع في هذا التّيار نفر أنكر عليهم الحزب خيانتهم وإلحادهم فتجمعوا في صعيد واحد وأخذوا يسيئون إلى الأمة في شخص حزبها “وكان أشدّ قياديي الحزب تهجّما على الحداد محيي الدين القليبي الذي كان يقول عنه “أنه يدسّ السم في الدّسم وتارة يرميه بالهدم وإفساد المشاريع وطورا يتهمه بالكفر والزندقة” ( ).
لكنّ كتاب الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” ورغم محاصرته ومنع انتشاره خدم قضية التحرر بالضجة التي قامت حوله وكان إثماره في المجتمع ليس ببعيد. كذلك ولئن طغت رهانات الواقع التاريخي منذ الثلاثينات على اهتمامات النّخب الوطنية وانشدّت طاقاتها النضالية نحو توحيد الصفوف من أجل التحرر الوطني أساسا وتراجعت قضية تحرير المرأة من أولويات مشاغلها ورغم ذلك سايرت الأفكار التي نادى بها الحداد ورفاقه وعي النخب وستشهد السنوات اللاحقة وخاصة سنوات البناء ما بعد الاستقلال تكريسا لتلك الأفكار الريادية. ومهما كانت المعوقات أمام الرقي بالمرأة فإن حصيلة فترة 1920 – 1948 لم تكن مستهانة.

هاجر وأسماء

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى