أحداثوطنية

فرحات حشاد الشهيد الخالد بقلم -محمد العماري-

لوبوان تي ان :

مثلما استفادت الحركة الوطنية من الحضور العمالي ودرجة الوعي لدى الشغالين بالفكر والساعد، فان الاستفادة كانت كبيرة كذلك من شخصية حشاد النضالية وحماسته للقضية الوطنيةففرحات حشاد، فضلا عن حركيّته وبراعته في الخطاب التعبوي، وكذلك الحصانة المعنوية الدولية التي أصبح يتمتع بها بعد انخراط المنظمة الشغيلة في النقابات الحرة ومع النقابات الأمريكية، فإنه يتمتع أيضا بعلاقات جيدة مع الأسرة المالكة ومع جميع أطراف الحركة الوطنيةمما يسّر له دخول الديوان السياسي لحزب الحركة الوطنية سرا وسد الفراغ الحاصل عند اعتقال قيادات الحزب الدستوري الجديد يوم 18 جانفي 1952 وتحمل مسؤولية تسيير دواليبه إلى يوم اغتياله رحمه الله.

ففي ظل سنوات معدودة، تمكن حشاد من تهميش النقابات الفرنسية ونقابات الشيوعيين التونسيين التي كانت تعرف ب «اتحاد نقابات القطر التونسي” الذي أسسه الحزب الشيوعي التونسي الذي كان يُسمي الحزب الشيوعي بالقطر التونسي“. كما تمكن الاتحاد العام التونسي للشغل من إرسال المتطوعين للدفاع عن فلسطين وجمع التبرعات لفائدتها إبان حرب 1948.. إلى المناداة بتأميم الثروات التونسية في مؤتمر الاتحاد الثالث سنة 1949 وربط العمل النقابي بالسياسي دون العلن في إطار الوحدة القومية

ولعل أخطرها هو سد الفراغ الحاصل في حزب الحركة الوطنية بعد اعتقال جل قياداته وإبعادهم إلى المنافي داخل البلاد وخارجهاوفي هذا السياق، لا اعتقد أن الاستخبارات الفرنسية التي كانت تتابع ـ كأي سلطة احتلال ـ وضع البلاد من خلال التحركات ونشاطات المجتمع، كانت تجهل موقع حشاد المتقدم في الحزب ودوره في تسييره بل ضلوعه في التخطيط للعمل المسلح ضدها الذي تبناه الحزب في مؤتمره في 18 جانفي بمدينة بنزرت برئاسة المرحوم الهادي شاكر.

فالسلطات الاستعمارية أصبحت في تلك الفترة تضجر من الحصانة التي يتمتع بها حشاد وخاصة اتصالاته بالأمريكان وحجم الضغوطات التي تتعرض إليها الإدارة الفرنسيّة من قِبَل حلفائها الأمريكيين فيما يخص إصلاحات داخل المنظومة الاستعماريّة، المفروض القيام بها تجاه التونسيين وإنهاء الاستعمار المباشر.

فالتضييق على حشاد وحرمانه جوازَ سفر أو تأشيرة الخروج من البلاد من قبل السلطات الاستعمارية، كلها كانت تندرج في إطار انزعاج السلطات الفرنسية من تدويل القضية التونسية بعدما أصبح زعماءها يجوبون بلدان العالمفبورقيبة بعد الحرب العالمية الثانية زار أمريكا وبلدان المشرق العربي وجل بلدان آسيا للتعريف بالقضية، أحمد بن صالح مستقر في بروكسيل ويتحرك تحت حصانة ” السيزل، صالح بن يوسف ومحمد بدرة والباهي الأدغم في أمريكا والأمم المتحدة.

ففي هذا الجو المشحون، قررت السلطات الاستعمارية تصفية حشاد يوم ديسمبر 1952 صباحا عندما كان متجها من بيته برا دس إلى تونس على يدي عصابة اليد الحمراء” ثم ألقِيَ جثمانه الطاهر على الطريق بعد الاجهاز عليه من قِبَل مجموعة إرهابية ثانية تظاهرت بإسعافه من نزيفه بعد وابل الرصاص الذي أصابه في سيارته من طرف المجموعة الأولى.

سلمت السلطات الاستعماريّة جثة الشهيد رحمه الله إلى أهله في تابوت يومديسمبر 1952 تحت رقابة مشددة ومنع أصحابه ورفاقه حضورّ جنازته، ونقل جثمان فرحات حشاد على مركب صغير إلى جزيرة قرقنة، حيث دفن في العباسية مسقط رأسه.

 تهديد سبق الجريمة.. فأين الحماية؟

اذا ما علمنا أن جريمة اغتيال الشهيد قد سبقتها حملة تهديد مباشرة وغير مباشرة بتصفيته من قِبَل عصابات مجهولة، فهل يكون هناك مسؤولية في التقصير من الجانب الوطني في أخذ التهديدات على مأخذ الجد واتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك؟ نعني بذلك “الأمين الباي” وحكومة صلاح البكوش والحزب الدستوري وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، وربما حتى الشهيد نفسه الذي ما كان له أن يدفعه حماسه حد الاستهانة بالتهديدات، فيتنقل وحيدا دون مرافقة أو حماية مسلحة. فلعل شهامته وعزة نفسه رحمه الله منعتاه من طلب الحماية من أي جهة.

فالمسؤولية الأكبر بعد الإدارة الاستعمارية حسب رأينا تقع على سلطة الباي” وقيادة الحزب وكذلك قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لعدم توفيرهم حماية خاصة للشهيد رغم أنه سبق أن أحاطهم علما بالتهديدات المباشرة الموجهة له من قِبَل عصابات إجراميّة مجهولةيروي محمد حبيب المولي عن اجتماع للديوان السياسي سنة 1952 ضم كل من فرحات حشاد والهادي نويرة، النور البودالي، الفرجاني بالحاج عمار، والمختار عطية يقول 

تناول حشاد الكلمة فقال بالخصوص: “حذرني المقيم العام من مغبة دخول الاتحاد العام التونسي للشغل المعركة الوطنية، ووعدني أنه إذا لم يدخل الاتحاد هذه المعركة فإننا لن نمس شعرة من رأسك” ثم أضاف قائلا:”بوصفي دستوريا، أنا أقول لكم إن من الأفضل عدم تشريك الاتحاد العام التونسي للشغل في المعركة لأن أهم شيء عند معظم العمال هو قوتهم وقوت عيالهمإذا، فإننا نخشى لو أقحمناهم في المعركة التحريرية أن يفروا منا ويبادروا بالانضمام إلى النقابات الفرنسية المنافسة مثل ” CGT“. هذا أقوله كدستوري لا كأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغللذا اقترح أن تبقى المنظمة الشغيلة خارج المعركة”.

فمهما يكن من أمر، سواء من خطط أو نفذ أو استفاد من اغتيال حشاد، فإنها تبقى جريمة نكراء ولعنة تتابع الدولة الفرنسية طالما لم تتحمل مسؤولية الاغتيال التي طالت حشاد وغيره من التونسيين، وذلك بإماطة اللثام عن المجرمين الذين غادروا تونس سنة 1956 بتواطؤ من وزير العدل آنذاك ” فرنسوا ميتران“. فهذه الجرائم لا تندثر بالنسيان ولا تسقط بالتقادم، بل يجب أن تبقى مسؤولية الدولة التونسية والحكومات المتعاقبة حتى تنجلي الحقيقةكما بقدر ما نحمّل حكومات الاستقلال المتعاقبة المسؤولية لعدم سعيها بصفة جدية فيما نعلم في الضغط على فرنسا لكشف القتلة والمطالبة بمحاكمتهم،

وفي ديسمبر 1955، قررت حكومة الطاهر بن عمّار التفاوضية، باتفاق مع الاتحاد العام التونسي للشغل نقل جثمان الشهيد فرحات حشاد إلى العاصمة حيث دفن بشارع باب بنات بتونس العاصمة.

يروي المرحوم عبد العزيز بوراوي الذي واكب نقل الجثمان من قرقنة إلى تونسيقول ولدى فتح القبر كنت واقفا هناك فرأيت مشهدا لن يمحى من ذاكرتي، وكانت لحظة شديدة التأثير.. حيث كان جثمان الفقيد في كفن الذي لم يأفل بياضه وظهر شعره من طيات الكفن والدم أسود شائح في مكان الرصاصة القاتلة إلى جانب جنبه الأيسر، كما ظهرت يده اليُسرى عارية من الكفن وبشرة جلدتها مصفرة لم تتغير خلقتها رغم مضي ثلاث سنوات على استشهاده“. كما يروي كذلك أن الزعيم الحبيب بورقيبة طلب تأبين الشهيد فرحات حشاد إلا أن محمد كريّم رفض ذلك باعتبار أن المرحوم كان دوما يجمع ولا يُفرّق… وأنه نظرا للظروف السائدة والخلاف القائم بين بورقيبة وبن يوسف، فإذا قبلنا بتأبين بورقيبة فلا نستطيع رفض تأبين الزعيم بن يوسف. وعليه من الأسلم أن يؤبنه الأمين العام أحمد بن صالحوهذا ما وقع

 أما على الصعيد الوطني فقد أنصفت الدولة المستقلة المرحوم فرحات حشاد وبوّأته المكانة اللائقة به كرمز وزعيم وطنيفلم يُخلّد اسم في تاريخ تونس المستقلة والذاكرة الشعبية بعد الزعيم بورقيبة مثلما خُلد اسم الزعيم النقابي فرحات حشادفلا تكاد تخلو مدينة في تونس أو قرية، من رمزية تخلّد الزعيم النقابي فرحات حشادإما بالأنهج والشوارع والساحات التي تحمل اسمه، أو مؤسسات عمومية كالمدارس والمعاهد أو المستشفياتالخكما أن نجله لم يحظ أحد من أبناء الشهداء مثل ما حُظيَ به نور الدين حشاد وعائلة حشاد من رعاية وتكريم ومكانة داخل مؤسسات الدولة الوطنية.

محمد العماري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى