أحداث

هل كانت جريمة اغتيال حشاد مفاجأة؟

لوبوان تي ان :

 ما هي الأسباب التي اعتمدتها سلطات الاحتلال الفرنسي لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد؟ من المستفيد من اغتياله؟ من المتواطئ؟ من القاتل؟ ما تأثير اغتياله في الساحة النقابية والوطنية؟
من خلال ما توفر لدينا من مراجع تناول جُلها موضوع الاغتيال، يمكن أن نحدد من خلالها تقريبا هدف الاستعمار من تنفيذ جريمة اغتيال فرحات حشاد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل والعضو السري بالديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد المتزعم للحركة الوطنيّة. فالإدارة الفرنسية كانت تصنف الزعيم فرحات حشاد بالخطير وذلك:
1.     لتحصّنه بالحصانة النقابية الدولية وخاصة الأمريكية حيث وفرت له حرية التحرك وخولت له القيام بعديد المهام الوطنية من خلال اتصالاته مع المنظمات الدولية وبالخصوص النقابات الأمريكية والكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة ( سيزل). يقول المرحوم الباهي الأدغم في رسالة إلى  أحمد بن صالح سنة 1953 :” بينما الديمقراطيون في الولايات المتحدة الأمريكية مترددون في دعمنا، فإن الجمهوريين قد سلّمونا بالكامل للاستعمار الفرنسي، وهذه ضربة قاتلة لسياسة حزبنا ومذهبه (تجاه السياسة الأمريكية) التي يتبناها سي الحبيب بكل شجاعة ونزاهة. نحن ذهبنا إلى الأقصى في ذلك بكل صدق إلى غاية إغضاب أصدقائنا في مجموعة الإفريقي ـ أسيوية في الأمم المتحدة. ففرحات قد دفع حياته ثمنا ووفاء لهذا التقارب. فالذي اغتيل ليس فرحات النقابي، ولكنه فرحات الأمريكي..”[1]
2.     قربه من الاسرة المالكة وعضويته في مجلس الأربعين الذي كونه الباي باقتراح من حشاد نفسه وأعضاء الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد للنظر في “الإصلاحات” المقترحة من الإدارة الفرنسية. هذه الأخيرة تحمّل فرحات حشاد نتيجة رفض الباي لهذه الإقتراحات، وهي “إصلاحات” تكرس بكل وضوح الهيمنة الاستعمارية. في تصريح لجريدة ” ليموند” ديسمبر 1952 يرجع المرحوم صالح بن يوسف أن اغتيال فرحات حشاد هو قربه من العائلة المالكة وتحديدا من ” محمد الأمين باي”. إذ أنه كان المستشار المسموع لدى الباي أي أن حشاد كان له الفضل إلى حد كبير في إقناع الباي بضرورة القضية الوطنية وتثبيت صموده في رفض مشروع الإصلاحات الفرنسية من خلال مكانته المرموقة في مجلس الأربعين. فحشاد كان له تأثير كبير على محمد الامين باي، ولا أدل على ذلك من استسلام هذا الأخير لأوامر المقيم العام بعد اغتيال الشهيد بأسبوعين، وذلك بالإمضاء على أمر تنظيم انتخابات بلدية وفق الشروط الاستعمارية.
3.     تولي حشاد إدارة الحزب الدستوري الجديد، وسدّ الشغور الحاصل داخل قيادته المركزية بعد اعتقال زعمائه وإبعادهم إلى الجنوب والشمال الغربي (قبلي، رمادة وطبرقة ثم جالطة) وتنظيمه للمقاومة المسلحة..  كما يؤكد كل من  أحمد المستيري ومحمد حبيب المولي أعضاء الحزب الدستوري بأن الشهيد فرحات ” كان بدون منازع محرك ومنسق ومصدر مقاومة ضد الاستعمار في المعركة الأخيرة
4.     لتأثيره على الباي فيما يخص تدويل القضية التونسية ورفع شكوى من الحكومة التونسية ضد الدولة الفرنسية. ولو أن هذه الخطة لم تكن محل إجماع بينه وبين بورقيبة الذي كان محترزا من “دسترة” محمد الأمين باي وإقحامه في المقاومة السياسية. فمقاربة بورقيبة في هذا الموضوع تختلف تماما عن مقاربة صالح بن يوسف وحشاد حيث كان بورقيبة يرى أن الأمم المتحدة لن تهتم بالقضية التونسية ما لم تكن هناك اضطرابات خطيرة منبثقة عن مقاومة شعبيّة منظّمة. كما يرى بالتوازي أن المراهنة على الأمين باي مراهنة خاسرة لقناعته بأن هذا الأخير جبان لا يستطيع الثبات أمام تهديدات المقيم العام. وهو ما حدث فعلا كما أسلفنا بعد اغتيال فرحات حشاد واستسلامه لتهديد المقيم العام بالعزل وتكوين لجنة وصاية لتسيير القصر.
والخلاصة، مهما يكن من أمر فالجريمة قد وقعت بعلم من الدولة الفرنسية التي تتحمل مسؤوليتها كاملة في التدبير والتستر على المجرمين القتلة سواء كان ذلك بالمشاركة السلبية حيث أنها كانت تعلم بالجريمة ولم تعمل على منعها، أو بالتواطؤ المفضوح، وذلك من خلال تقاطعات كثير من الشهادات من صحفيين وشخصيات من النخبة الفرنسية ذاتها بأن المسؤولية في الجريمة سواء كانت تخطيطا أو إعدادا ماديا أو تنفيذا أو سكوتا مخلا أو تواطؤا مفضوحا.
هذه المسؤولية يتحملها كل من رئيس الجمهورية “فنسان اوريول ” ووزير دفاعه “روني بليفان” ووزراء الخارجية “روبير شومان” والداخلية “شارل برون” ورئيس الحكومة “انطوان بيناي” وهم كلّهم من الاشتراكيين. (الوجه الثاني الاستعماري الناعم). أما المسؤولية المباشرة في الجريمة ترجع للمقيم العام “دي هوت كلوك” الذي  كان على علم بساعة التنفيذ، قد عمد إلى مغادرة تونس يوم 4 ديسمبر حتى يُبعد عن نفسه شبهة العلم والتواطؤ. أما من الجانب التونسي فكان الوزير الأكبر للباي صلاح الدين البكوش، وذلك من خلال ما ضبط من مراسلات بينه وبين نضيره الفرنسي “بيناي” تحرض على حشاد بحكم مكانته المتميزة عند الباي..  كما يؤكد هذه التهمة ما رواه بعد ذلك المقيم العام نفسه “دي هوت كلوك” فيما يخص إحدى الوشايات التي تلقاها من صلاح الدين البكوش في معرض حديثه عن الزعيم حشاد الذي أصبح حسب هذا الأخير ذا تأثير أكثر فأكثر على سياسة العرش، وأصبح ” منفوخا” بما له من جرأة غير مسبوقة بفضل اتصالاته بالخارج وبما يأتيه من أخبار من نيويورك (من الباهي لدغم رئيس مكتب الحركة التونسية).
كما يقول أيضا “كلوك” بأن البكوش نقل له من خلال ما بلغه من القصر بان الباي يعتزم اعتقال البكوش والوزراء يوم 4 ديسمبر بمناسبة عيد العرش، ووضع نفسه تحت الوصاية الأممية وذلك باقتراح وتأثير من حشاد.[4]
فالجريمة كانت جريمة دولة بكل المقاييس وعصابات اليد الحمراء هي صنيعة الدولة وليست خارجة عنها مثلما يزعم مسؤولو الدولة الفرنسيّة. فيكفي أن المقيم العام الذي يمثل الدولة الفرنسية التمثيل الأول في الإيالة التونسية كان شريكا في الجريمة. وذلك بعلمه بساعة التنفيذ كما أسلفنا، ومعرفته أيضا للمجرمين الذين أعلموه بساعة التنفيذ والهدف كما يرويه عن نفسه. لقد استغل عملية مسلحة للمقاومة التونسية جدّت في “عين سلام ” بقابس ليلة 16 نوفمبر 1952 للانتقام من حشاد باعتباره المشرف الأول عن المقاومة حيث يقول “لقد أحطت علما باريس في مراسلة في نوفمبر بأن لديّ معلومات جديّة إلى أبعد حد، قد بلغتني حول احتمال انطلاق عمليات انتقامية من قِبَل مجموعات فرنسية للدفاع عن النفس ضد قيادات حزب الدستور الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل بعد هجوم قابس بين 15 و16 من نوفمبر ضد الفوج الرابع للخيالة الذي أسفر عن قتل 6 جنود فرنسيين” ويواصل القول” لقد سبق وأن راسلت يوم 5 نوفمبر 1952 كاتب الدولة للشؤون الخارجية “موريس شومان” حيث قلت له إلى أي حد يجب أن أتجلد بالصبر؟ إلى متى يجب عليّ أن أكون متسامحا مع عمليات الإثارة ضدنا من فرحات حشاد وأبناء الباي الاثنين (الشاذلي وأحمد)”. وفي هذا الصدد يقول الصحفي بجريدة لوفيقارو “ايريك أوليفيه” بعد لقائه بالمقيم العام غداة اغتيال المرحوم فرحات حشاد: “كنت مع المقيم العام على نفس الطائرة المتجهة إلى تونس، فسألته عن العملية إن كان له علم بها أو ارتباط، فقال لي: قبل العملية بيوميين (أي يوم الأربعاء 3 ديسمبر) بينما كنت أستعد إلى التوجه إلى باريس، وإذا بأشخاص جاءوا لمقابلتي وأعلموني بنيّتهم اغتيال فرحات حشاد. فقلت لهم أن لا يفعلوا شيئا. يقول الصحافي:”لم تصدق أذناي ما سمعت” (من خطورة ما سمع من المقيم العام الذي كان على علم ولم يعط الإذن للمصالح الخاصة لمنع العملية) وقلت له “من هؤلاء الأشخاص؟ فأجابني إنهم أوروبيين ولن أقول لك شيئا أكثر من هذا”
فمتى تفتح الدولة التونسية ملف اغتيال فرحات حشاد وغيره من ضحايا ارهاب الاحتلال امام المحاكم الدولية وكشف المجرمين؟ للاسف هذا الملف بقي متسترا عليه من طرف حكومات الاستقلال لا ندري أن كان قصدا أو عجزا .. وبقي الاكتفاء بإحياء ذكرى اغتياله.. لنردد كل مرة كان حشاد زعيما ومات شهيدا.
محمد العماري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى