لوبوان تي ان :
مرة اخرى، ترددت كثيراً قبل ان أدلي بدلوي في موضوع “تونسة حقل ميسكار”، لكن أمام استفحال العرض، واسهال الخزعبلات الذي اجتاح وسائل الاعلام الرسمية قبل الفيسبوك، ارتأيت انه من واجبي ان أقدم شهادة، فقط لمن يبحث عن الحقيقة..
سنة 1992، كانت تونس تنتج محروقات تغطي حاجتها وتبقي القليل للتصدير.. محطاتنا الكهربائية كانت اغلبها تشتغل بالمازوت، وكان الغاز بشكل عام في العالم ليس ذا قيمة كبيرة لدرجة اننا كنا غالبًا ما كنا نطلب نصيبنا من الاتاوة على الغاز الجزائري نقداً. في هذه الظروف، استكملت شركة بريتش غاز اعمال استكشافها في رخصة اميلكار بخليج قابس وتقدمت بطلب لتطوير واستغلال حقل ميسكار بتكلفة تفوق المليار دولار (أكبر استثمار بتونس في ذلك التاريخ).
ولئن كان المعمول به في الحقول النفطية ان يكون الاستغلال بشراكة بين الايتاب والمستثمر الاجنبي، ارتأت الشركة الوطنية ألا تدخل في الاستثمار بشكل متساو مع الشركة الأجنبية (وان كنت شخصياً لا أتفق مع هذه التوصية لأسباب لا يتسع المجال هنا لمناقشتها). إذاً أسند امتياز ميسكار للشركة البريطانية وفقاً لما نصّ عليه القانون السائد آنذاك (قانون المحروقات الذي سنّ منذ 1985 وسبق اصدار المجلة سنة 99)، وهو أمر ينضوي تحت القوانين المنظمة للقطاع ولا يعني قطعاً تسليم الحقل وخيراته مجاناً للمستثمر الأجنبي، حيث أنّه يبقى مديناً للدولة بحزمة من الاتاوات والضرائب والاسعار التفاضلية، تجعل مدخول الدولة لا يختلف كثيراً بين المشاريع المشتركة أو تلك المعهودة بشكل كلّي ومباشر للمشغلين الأجانب.
هذا بالنسبة للماضي.. صار اللي صار واكتشفنا بعد سنين أن الشركة البريطانية كانت تدرك حاجاتنا المستقبلية أحسن منا، فانتقلت المنظومة الطاقية في تونس تدريجياً نحو انتاج الكهرباء بالغاز الطبيعي، ما جعل مسألة الغاز نقطة حيوية في الاستراتيجية الطاقية التونسية ودفعت إلى تطوير المزيد من الحقول، في البحر أو في الصحراء، ومنها حقل صدر بعل الذي طورته شركة بريتش عاز، لكن هذه المرة بشراكة كاملة مع الايتاب.
أما بالنسبة لتواجد شركة شال في تونس، فقد كانت هذه الشركة العالمية نشطة في بلادنا في الثمانينات (حقل تاركة البحري) ولكنها توقفت عن الانتاج منذ التسعينات وأبقت على تمثيلية صغيرة في تونس (لا يجب الخلط بين شركة استكشاف واستغلال النفط، ومحطات البنزين التي تصادفنا في الشارع). سنة 2014، وبعد فشل الاتفاق مع الحكومة التونسية حول تطوير حقول الشيت في تونس (خطأ تاريخي لا يتحدّث عنه أحد)، أعلنت الشركة عن غلق أبوابها والخروج نهائياً من تونس.
سنة 2017، أتمّت شركة شال عمليّة اقتناء شركة بريتش غاز وحصصها وكل ممتلكاتها حول العالم، وقد كان تركيزها الأكبر منصبّاً على حقول الشركة في استراليا، ولكن هذا لا يمنع انتقال عدد من الأصول الاخرى الصغيرة إلى شركة شال في نفس السّلّة، وكان من بينها حقول تونس (ميسكار وصدر بعل). ومنذ البداية أعربت شركة شال عن نيتها بيع هاته المحطات الي لا تدخل في استراتيجياتها المستقبلية، ولكنها لم تجد الشّاري فأبقت عليها لبضع سنوات أخرى ريثما تتحسّن السّوق.
في سنة 2020، بدأت شركة شال في اتخاذ خطوات تؤكّد عزمها الخروج من البلاد، فتدخّلت مصالح الادارة التونسية بشتّى الطرق، التفاوضية أو حتى الديبلوماسية لحثّها على البقاء، ولكن باءت هذه الجهود بالفشل (لاعتبارات عدّة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو يخصّ الشركة)، لتعلن الشركة بشكل رسمي نيّتها الخروج من تونس أوائل سنة 2021، بل أنها رغبت في الاستغناء عن باقي “حقها” في الاستغلال، سواء في ميسكار أو في صدر بعل، الشيء الذي رفضه الجانب التونسي وأصرّ على ايفاء الشركة بالتزامها تجاه هذه الحقول حتى نهاية العقد اذا لم ترغب في تجديده.
في جوان الماضي، انتهى العقد الذي يربط بين الدولة التونسية وشركة شال، واتفق الطرفان على أن تتكفّل شركة APO (شركة مختلطة بين ايتاب وشال لإدارة حقل صدربعل) بإدارة حقل ميسكار.
النتيجة اذاً…
1- كل ما يقال عن “تونسة” الحقول هو محض ادّعاء لبطولات وهميّة وفرقعة فارغة. هذه الشركات ليست ارثا استعماريا حتى نقول أننا “تونسناهم”، بل نحن -كتونسيين- جبنا المؤتمرات وطفنا عواصم العالم لاستجلاب المستثمرين واقناعهم بالمجيء إلى بلادنا. هذه الخيرات لم تكن لتتطور لو لم تخلق هاته الشراكات ولو لم تستجلب هاته الاستثمارات. وعلى امتداد عقود، عمل مهندسون وتقنيون تونسيون على حسن ادارة هذه الحقول وسهروا على ضمان حقوق البلاد. وهذه الخيرات هي التي كانت قوت التونسيين لعقود، وهي التي حققت لتونس فائضاً طاقيّاً ومالياً سمح ببناء المعامل والبنى التحتية والجسور والمطارات، في السبعينات والثمانينات وأوائل التسعينات. أن يكون توزيع الثروة لم يكن منصفاً، أن تكون الجهات المنتجة هي الأقلّ حظّاً في توزيع الخيرات، فهذا خطأ الدولة التونسية وليس خطأ الشركات والمستثمرين الاجانب.
2- حتى في الصين، كوبا، الجزائر أو روسيا، حتى مع الاتحاد السوفياتي سابقاً، ادركت كل دول العالم أن تطوير قطاعات النفط والغاز يمرّ عبر استجلاب الشركات الكبرى، التي تملك التجربة التقنية والوزن المالي لخوض غمار الاستكشاف والتطوير. من المؤلم أننا في تونس اليوم “نحتفل” بخروج آخر شركة عالمية من البلاد، لندّعي بذلك نصراً في حين زننا في الواقع عاجزون حتى على استلام الحقول وادارتها بعد خروجها! وزد على ذلك -وهو الاهم في رأيي- بخروج الشركات المختصّة، لا سيما تلك القوية والحائزة على الثقل المالي والتجربة والتقنية، تنتفي فرصنا في دفع عجلة الاستكشاف أو التطوير. هنيئاً لنا بما بقي من مخزون -هو بالفعل يتناقص سنة بعد سنة- نحاول أن نلملم ما بقي منه مع تجنّب التسبب في كوارث..
3- لقد سكن عقلنا الجماعي اليوم فكرة “الشركات الناهبة لثرواتنا” ولولاها لكنا مثل الكويت، حتى صرت اعتقد أنه مهما حدث، فلن تمّحي هاته الفكرة عن عقول التونسيين… وركب قطار الشعبوية هذا السياسيون (من البارح مش من اليوم)، والعامّة، حتى صار يهدد بالقضاء تماما على قطاع الصناعات الاستخراجية في تونس -بل هو بالفعل بصدد ذلك. أن يسرقك شريكك أو لا، فهذا يقف على معطيات عدة، منها قدرتك على التمكن من التكنولوجيا، وحسن متابعتك للأشغال، وتطوير امكاناتك حتى تصبح أقل احتياجاً لكل تدخّل أجنبي. لكن ما نفعله نحن، فهو أننا نحرق زرعنا بأيدينا بتعلّة أنّه يتعرّض لعمليّة “نهب من قبل الغير”. في النهاية، وبعد الا نبقي منه إلا الرماد، سنعي ربما أننا كنا نعيش وهماً وأننا لم نفعل إلا الاساءة لأنفسنا ولمستقبل اولادنا.
4- في إطار التسويق دائماً للانتصارات الوهمية واللعب على أوتار الشعبوية، تجاوز أغلب ما قرأت من المقالات الحديث عن ميسكار، ليذكر عن تواجد “مفاوضات” لاستعادة صدربعل، وحديث عن استعادة حقول أخرى مثل طم صميدة والمعمورة وغيرها… أما بالنسبة لصدربعل فهي محض أكاذيب. المفاوضات الوحيدة الممكنة ستكون تتعلق برغبة شال في الخروج قبل نهاية العقد، مقابل اصرارنا على ابقائها حتى تساعد على ادارة صدر بعل ومسكار (سوياً). أما بالنسبة للحقول الأخرى، فكل ما حدث كون العديد من هذه الحقول أشرفت عقودها على النهاية (وهناك قائمة أخرى ستلتحق في 2022-23)، فكلها قد وقع تمديدها لفائدة مستغليها الحاليين وتقريباً بنفس شروط اللزمة الاصلية (وللأمانة، لست على وفاق مع هذا التمشي، ولكنني أدرك تماماً أنه الحل الوحيد المتوفر أمام تأخّر أي عملية اعادة هيكلة للقطاع كان يفترض أن تنجز منذ سنوات عديدة تجهيزاً لهذه اللحظة).
قد يفهم في بعض ما قلت استنقاصاً للكفاءة التونسية أو لإمكانيات الادارة التونسية. قطعاً لا. افتخر شخصياً بكوني نتاج لهذه الكفاءات التونسية، تتلمذنا جميعاً على ايديهم وكانوا حقيقة فخراً لتونس وعلى مستوى عالمي من التجربة والمهنية. كذلك، الادارة التونسية تزخر بكفاءات وطنية، تشرفت ان عملت معها عن كثب، وأشهد لهم بالوطنية والتفاني في خدمة وطنهم (بالرغم من كونهم محلّ هرسلة متواصلة). لكن هذا لا يعني أن نتجاهل تماماً حقائق الواقع أو أن تقودنا العنتريّات الفارغة. لا يمكن أن نتجاهل ما يعانيه قطاع الطاقة من مشاكل هيكلية وبشرية وقانونية ما فتئت تتفاقم منذ سنين، وزادت عليها الحرب الشعواء التي شنّت على القطاع فانتشر المشعوذون وحمّالة الحطب، وصار موظّفو القطاع محل اتّهام وموصومين بالفساد والعمالة حتى وان اثبتوا العكس.
كذلك، من حقّنا وضع نقاط استفهام كثيرة حول الضجة الاعلامية التي انبثقت من عدم طوال الاسبوع المنقضي.. كما سبق واوضحت، المسألة محسومة منذ سنين، ما يجعل الضّجّة الحاليّة “لا حدث” Un non événement.. ولنا اذاً أن نتساءل إن كنّا نفعل ما نفعل من قبيل الفراغ، أو أنها نتيجة لحالة جهل عمومي وعجز عن التّفكير أصابنا جميعاً، نخباً وجماهير؟
لقد تحوّلنا إلى شعب من الدونكيشوتات، نخترع أعداءً خياليين ونصارع طواحين الهواء لنبتكر انتصارات وهميّة هي الاخرى، وفي الأثناء نحن ندهس أحلامنا وأرزاقنا تحت قدمينا في غباء ورعونة فلا نبالي، ويكاد العالم من حولنا ينظر لنا بعين الشفقة وهو يتابعنا قائلاً “ما الذي حلّ بهم ليعيشوا حالة الذهان الجماعي هذه”..
بقلم حامد الماطري-خبير اقتصادي –