
“من قفصة إلى قابس، الماء هو الخيط الذي يربط المأساة ببعضها ويَختزل عنوان الحل والخلاص”
“معالجةُ هذا الملف تتطلب مقاربة تشاركية هادئة ورؤية حكومية متشابكة”
بقلم: أ. حامد بن إبراهيم / استشاري في العلاقات الدولية
***
منذ أكثر من نصف قرن، مثّل قطاع الفوسفاط أحد أعمدة الاقتصاد التونسي، ومصدرًا رئيسيًا للعملة الصعبة وفرص التشغيل. غير أنّ هذا المورد الثمين تحوّل، مع مرور الوقت، إلى معضلة بيئية واجتماعية واقتصادية. فموارد المياه الجوفية تُستنزف في الحوض المنجمي في استخراج وغسل الفوسفاط، وتَغرق قابس في نفايات التكرير. هكذا تصبح المياه، التي يُفترض انها ركيزة التنمية في المناطق الواحِيّة، ضحية هذا النموذج الصناعي الذي لم يواكب مقتضيات العصر. هذا الواقع ليس خصوصيّة او قدرا تونسيا، بل مرت به وتصدت له عديد الدول؛ التي نجحت في تجاوز العقبات وتحقيق النقلة المنشودة. لقد آن الأوان لإعادة التفكير جذريًا في منظومة الفوسفاط، من المنجم إلى المصنع، ومن الصحراء إلى البحر.
تونس اليوم، أمام تحدٍّ استراتيجي يتمثل في إعادة هيكلة قطاع الفوسفاط بما يحقق التوازن بين التنمية والبيئة. فالأزمات تتقاطع بين قفصة وقابس حول محور واحد: الماء، الذي صار ضحية الصناعة بدل أن يكون أساس الحياة. وتُظهر التجربة أنّ الحلول الجزئية لم تعد مجدية، ومعالجةُ هذا الملف تتطلب مقاربة تشاركية هادئة ورؤية حكومية متشابكة تُشرِك وزارات الفلاحة والبيئة والصناعة والسياحة والثقافة في رؤية واحدة. فالقطاع الفلاحي يحتاج إلى حماية موارده المائية، والبيئة مطالبة بوقف التلوث، والثقافة تسعى لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والأرض، والسياحة تنتظر فضاءات نظيفة وجذابة للتمكن من الترويج والتسويق.
لا بدّ من إعادة الهندسة الجغرافية لأنشطة الاستخراج والتكرير، لتتخلص قابس وقفصة من التلوث ويتم الانتقال البيئي المتكامل، الذي تُعززه تحلية مياه البحر واستعمال الفوسفوجيبس في صناعة مدخلات مواد البناء؛ هذا النموذج يجب أن يُمثّل خيارًا وطنيًا استراتيجيًا لبناء اقتصاد دائري أخضر، يعيد للحياة معناها في الجنوب التونسي.
- الماء… جوهر الإشكال
من قفصة إلى قابس، الماء هو الخيط الذي يربط المأساة ببعضها ويختزل عنوان الحل والخلاص.
في الحوض المنجمي، تُستهلك كميات هائلة من المياه الجوفية لغسل الفوسفاط، ما أدى إلى انخفاض حاد في منسوب الآبار وتراجع النشاط الفلاحي. يُستنزف في قابس الماء لتغذية المجمع الكيميائي، وتُغرِق النفايات الفوسفوجيبسية البحر، فتختنق الحياة البحرية وقطاع الصيد البحري معها.
لقد أصبح سوء تدبير المياه سببا في اختلال التوازن البيئي والاقتصادي، لذلك يقتضي أيّ إصلاح جدّي لقطاع الفوسفاط أن يُبادَر بإعادة ترتيب العلاقة بين الصناعة والماء من خلال:
- تحلية مياه البحر لتلبية حاجات التكرير بدل استنزاف الموارد الجوفية.
- استعمال المياه الصناعية المعالجة في الغسل.
- حماية مياه الواحات لفائدة الفلاحة والسكان المحليين.
- إعادة الهندسة الجغرافية لنشاط الاستخراج والتكرير
أحد الدروس المستخلصة من التجربة التونسية هو أن جمع الاستخراج والتكرير في منظومة مركزية واحدة أدى إلى خلل بيئي ومائي لا يُحتمل. أمّا الحلّ المستقبلي فيمكن ان يقوم على:
- الاستخراج مع معالجة أولية محلية باستخدام مياه معاد تدويرها.
- نقل الفوسفاط الخام إلى منطقة صناعية جديدة (تجمع وحدة قابس والمظيلة)، بعيدة عن العمران على الأقل 50 كلم مع الاستفادة بخط السكة الحديدية الرابطة بين قفصة وقابس.
- احداث منشآت تكرير حديثة تعتمد على مياه بحر محلاة تُنقل عبر أنابيب من الساحل، وتُشغّل بطاقة شمسية متجددة.
بهذا الفصل الجغرافي، يُعاد التوازن البيئي للحوض المنجمي وتُرفع أعباء التلوث عن قابس وساحلها، وتتحول الصناعة إلى نظام دائري نظيف يربط بين المادة الأولية والطاقة والماء في منظومة متكاملة واحدة.
- الفوسفوجيبس: من النفايات إلى التثمين
لا يمكن الحديث عن إصلاح بيئي دون معالجة ملايين الأطنان من الفوسفوجيبس التي يتحملها خليج قابس منذ عقود، فتَشَوّه الشاطئ وتضررت الكائنات البحرية. وقد أثبتت الدراسات الدولية أن هذه المادة يمكن تحويلها إلى كنز صناعي ومورد إنتاجي جديد إذا عُولجت بطريقة علمية؛ مما يفتح مجالات استثمار وتشغيل جديدة ويقلّص الكلفة البيئية. إنها خطوة نحو اقتصاد دائري حقيقي في تونس إذا تم التصرّف في نفايات الفوسفوجيبس وتثمينها مثلا:
- في صناعة الإسمنت والجبس الاصطناعي بعد التنقية.
- في مكونات تعبيد الطرقات.
- في أسمدة آمنة بعد إزالة الإشعاع.
- خطة عمل وطنية شاملة
لا شك في أن الهياكل المختصة منكبّة على دراسة الموضوع، وتعمل على البحث عن أفضل الحلول والتصورات العملية لحل الإشكاليات القائمة؛ وقُدّمت بالفعل مؤخرا رؤية للخطوات التي تعتزم الحكومة تنفيذها في جلسة برلمانية. ومن باب الحرص على اثراء النقاش وتنويع التصورات بغاية الاحتكام للأنجع والأنسب، من حيث التكلفة والقابلية العملياتيّة للتنفيذ، نقدِّم نقاطا يمكن الاستفادة منها في إطار وضع الخطط، حسب ما يلي:
المرحلة الأولى: التنسيق والتشخيص (مستهدف مستعجل)
- إطلاق حوار وطني تشاركي مع المجتمع المدني والجامعات
- إعداد خطة وطنية متعددة القطاعات، بإشراف رئاسة الحكومة، تجمع وزارات الصناعة، الفلاحة، البيئة، السياحة، والثقافة وكل مؤسسة تستدعي الضرورة تشريكها. الخطة تستند خاصة على تجميع وتحيين بيانات التدقيق البيئي والمائي المتوفرة عن الحوض المنجمي وقابس.
- إدماج الملف في “استراتيجية وطنية 2050 للصناعات المنجمية والمياه والبيئة والسياحة والثقافة” .
· وضع خطة مالية متكاملة قابلة للحصول على التمويل والدعم من شركاء موثوقين سواء في إطار التعاون الثنائي او متعدد الاطراف
المرحلة الثانية: التنفيذ والتَّحوُّل الهيكلي (مستهدف قصير ومتوسط المدى)
- إنشاء محطات التحلية ومنطقة التكرير المفصولة عن الثقل العمراني.
- تأسيس شركة وطنية لتدوير الفوسفوجيبس ضمن الاقتصاد الأخضر.
- تطوير برامج السياحة البيئية والثقافية حول الواحات والمناجم القديمة.
المرحلة الثالثة: الاستدامة والتقييم (انطلاقا من السنة الخامسة)
- الاستفادة سياحيا وثقافيا من تحويل قابس وواحات الحوض المنجمي وقفصة إلى مراكز بيئية متكاملة.
- استعادة زخم الفلاحة الواحية في الجنوب بفضل استعمال المياه الجوفية.
خاتمة: إن إصلاح قطاع الفوسفاط هو اختبار وطني للقدرة على التنسيق بين الدولة والمجتمع وقطاع البحث العلمي. حين تتعاون الوزارات والإدارات كجسد واحد، يمكن تحويل الأزمة إلى فرصة تاريخية. فالماء الذي كان ضحية الصناعة يمكن أن يعود منبعًا للحياة، وقابس التي كانت جرحًا بيئيًا يمكن أن تصبح قلب التحول الأخضر في تونس. ذلك هو معنى الآية الكريمة من سورة الأنبياء حين تتحول بالتّدبُّر إلى رؤية عمَليّة: «وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حيّ أفلا يؤمنون».





