
بقلم حامد بن إبراهيم
***
تعود إلى الواجهة في السياق الجزائري، وبزخم إعلامي وسياسي خارجي ملحوظ، أطروحات انفصالية تقودها حركة تُعرَف بـ «الماك» بزعامة فرحات مهني، الذي أعلن عزمه الإعلان عمّا يسميه «جمهورية القبائل» يوم 14 ديسمبر 2025. ورغم الطابع الاستعراضي والرمزي لهذا الإعلان، الذي يقوده ناشط ثقافي تمّ تحويله لسياسي انفصالي، فإن دلالاته تتجاوز شخص صاحبه أو الإطار التنظيمي الضَّيق الذي يتحرك ضمنه، لتطرح إشكالية عميقة تتصل بموقع الجزائر في محيطها الإقليمي، وبالتحولات الجارية في بنية النظام الدولي، وبالأساليب المستحدثة في سياق السّعي لتأبيد النفوذ الاستعماري في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر.
ومن منظور استراتيجي، لا تكمن خطورة هذه المحاولة في فُرص نجاحها الواقعية، وهي شبهُ منعدمة، بل في الرهانات التي تُعلّق عليها، والأطراف التي تستثمر فيها، والسياق الجيوسياسي الذي تُستحضَر داخله. إذ لا يمكن فصل هذا الطرح عن نمطٍ متكرر في السياسات الاستعمارية القديمة والمتجددة، يقوم على توظيف الهويات الفرعية وتحويلها من روافد ثقافية غنية إلى أدوات صراع سياسي، تُستدعَى كلما تعذّر إخضاع الدولة الوطنية أو احتواؤها ضمن مسارات التّبعية الناعمة التقليدية.
في هذا الإطار، يبرز العامل الفرنسي من بين المفاتيح المركزية لفهم ما يجري؛ فالعلاقة الجزائرية- الفرنسية، رغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال، لم تتحول إلى علاقة طبيعية متوازنة، بل ظلّت مكبّلة بذاكرة استعمارية مضطربة تتخبط بين قراءات غير محسومة. ولا يزال جزء من النخبة السياسية الفرنسية، ولا سيما داخل اليمين المتطرف، أسير “عقدة الفقدِ الإمبراطوري” التي تغذّيها مواقف بقايا «الأقدام السوداء» وأحفادهم، ممن لم يتصالحوا مع حقيقة أن الجزائر خرجت من الفلك الفرنسي بثورة تحرّرية دموية شاملة، لا بتسوية تفاوضية تحفظ امتيازات المستعمِر.
ضمن هذا السياق، تُستدعى الحركات الانفصالية لا بوصفها مشاريع سياسية قابلة للحياة، بل كأدوات ضغط واستنزاف، يُلوَّح بها كلما سعت الجزائر إلى تكريس استقلالية قرارها السيادي، أو إلى إعادة فتح ملفات الذاكرة الاستعمارية، أو إلى توسيع شراكاتها الدولية خارج المدار الغربي التقليدي. وهي مقاربة لا تنفصل عن جذورٍ تاريخية عميقة في السلوك السياسي الفرنسي، حيث محاولات السيطرة على شمال إفريقيا لم تكن يومًا حكرًا على الحقبة الاستعمارية الحديثة.
ففي القرن الثالث عشر، قاد الملك الفرنسي لويس التاسع حملتين، في إطار الحروب الصليبية، استهدفت تونس، وكان مبعثُ ذلك الإدراك المبكّر (إذا استثنينا الصّراع القرطاجي الروماني وما تلاه) للأهمية الاستراتيجية لشمال إفريقيا في التحكم في غرب المتوسط. ورغم فشل الحملة الأولى ووفاة لويس بالطاعون في الحملة الثانية، نجحت التجربة في إرساء منطقٍ سيعود لاحقًا بأشكال مختلفة، قوامه أن السيطرة الدائمة لا تتحقق بالقوة العسكرية المباشرة وحدها، بل بتفكيك المجال وقضم الجغرافيا وإضعاف الوحدة الداخلية. وقد أُعيد إنتاج هذا المنطق في القرن التاسع عشر عبر التعاون الفرنسي مع محمد علي باشا في مصر، حيث جرى توظيف خطاب «التحديث» والإصلاح لضرب وحدة الخلافة العثمانية من الداخل، وتقويض بنيتها المركزية، تمهيدًا لإعادة رسم موازين القوى في المشرق والمغرب معًا. واليوم، وإن تبدلت العناوين من الإصلاح والتحديث إلى حقوق الأقليات وتقرير المصير، فإن الجوهر الاستراتيجي يظل من ثوابت المعادلة.
ويكتسب هذا المشهد بعدًا إضافيًا مع الحضور الإسرائيلي المتزايد في المغرب العربي، ولا سيما بعد التطبيع مع المغرب، مما وفر لإسرائيل اطارا سياسياّ وامنيّا لتواجدها في منطقة كانت تاريخيًا خارج مجال تحركها المباشر. وفي هذا السياق، برز فرحات مهني بوصفه أحد الأصوات التي جاهرَت بعلاقاتها مع إسرائيل في تصريحات ولقاءات علنية، وذهب إلى حدّ عدم استبعاد اللجوء إلى العنف لتحقيق مشروعه. ومن زاوية تحليلية، يندرج هذا التقاطع ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع تقوم على “اختراق الهوامش” وبناء علاقات مع فاعلين انفصاليين أو هامشيين، بهدف إضعاف الدول التي ترفض التطبيع، أو تلك التي حافظت تاريخيًا على دعمها للقضية الفلسطينية. والامر ينطبق على الشرق الليبي الذي يُستعمل للضغط على الغرب الرافض للتطبيع. وهنا يلتقي المسار الفرنسي والمسار الإسرائيلي، وإن اختلفت الدوافع المباشرة، عند نتيجة واحدة تتمثل في إرباك الدولة الجزائرية واستنزافها داخليًا.
ويمثل سلوك الغرب، وبالأخص فرنسا، تناقضًا صارخًا بين خطابهم المعلن وممارساتهم الفعلية في التعامل مع الحركات الانفصالية. فمن جهة، يرفعون شعارات مكافحة الانفصال وحفظ وحدة الدول، ويؤكدون على احترام السيادة الوطنية التي رفعت لدرجة التقديس بعد اتفاقات “فاستفاليا” وتبني فلسفة الدولة القومية الجامعة. ومن جهة أخرى، يوفرون غطاءً سياسيًا وإعلاميًا، ويسهلون مسارات اللجوء والتواصل للقيادات الانفصالية، كما حدث مع فرحات مهني وحركة «الماك». هذا التناقض ليس عفويًا، بل يعكس استراتيجية طويلة المدى تعتمد على استثمار التوترات الداخلية كوسيلة ضغط على الدولة الوطنية، لإضعاف قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، ولتمكين نفوذ خارجي يظل حاضرًا في أي عملية سياسية أو اجتماعية كبرى. وهكذا، تتحول الشعارات الحقوقية والسياسية إلى أدوات مزدوجة، تُستغل لإدامة نفوذ مستتر، بينما يتم رسم صورة عامة أمام الرأي العام الغربي والعالمي وكأن الهدف هو حفظ الاستقرار، في حين يكون المستهدفُ الفعلي هو ممارسة الضغوط باستمرار لتفكيك الدولة من الداخل.
ولا يمكن فصل هذه المحاولات عن التحول البنيوي الذي يشهده النظام الدولي، حيث يتجه العالم، بوتيرة متسارعة، نحو تعددية قطبية تتراجع فيها الهيمنة الغربية الأحادية لصالح تكتلات بديلة، في مقدمتها «بريكس». ففي هذا السياق، تعتبر الجزائر دولةً مرشحة موضوعيًا للعب دور محوري، بحكم موقعها الجغرافي الرابط بين إفريقيا والمتوسط – بارتباط استراتيجي بمنطقة الساحل- وبفضل قدراتها الطاقيّة، ورصيدها المعنوي التاريخي كدولة ذات خطاب سيادي مستقل. ومن هنا، تتقاطع المصالح غير المعلنة للولايات المتحدة والقوى الغربية عمومًا عند هدف تحجيم الطموح الجزائري، لا بالمواجهة المباشرة، بل عبر إنهاكها في محيطها الإقليمي وإبقائها منشغلة بملفات أمنية وسياسية مفتوحة.
وتندرج الأوضاع في ليبيا وتونس ضمن هذا الإطار الأوسع. فليبيا يُراد لها، في هذا التصور، أن تبقى خاصرة أمنية مفتوحة، تعاني ارتباكا سياسيا وفوضى مزمنة، بما يستنزف الجهد الجزائري ويحول دون تشكّل فضاء مغاربي مستقر. أما تونس، فتُواجه ضغوطا اقتصادية وسياسية متواصلة، يزيد في تعقيدها الاستهداف بالمهاجرين الافارقة، في محاولة للحدّ من هامش قرارها السّيادي، واضعاف قدرتها على الانخراط في تنسيق إقليمي متكافئ مع الجزائر. وبذلك، لا تُستهدف هاتان الدولتان لذاتهما فقط، بل تُوظَّف أوضاعهما كجزء من سياسة تطويق غير مباشر للجزائر، تهدف إلى منعها من التحول إلى قطب شمال إفريقي فاعل داخل عالم متعدد الأقطاب، وحرمان إفريقيا من عنصر توازن مهم في شمال القارة.
ورجوعا الى مساعي “الماك” الانفصالية، فإن ما أغفلته الرهانات التفكيكية التي تستهدف الجزائر هو طبيعة المجتمع القبائلي ذاته وعمق ذاكرته التاريخية. فبدل أن تجد الأطروحات الانفصالية حاضنة داخلية، أفضت إلى أثر عكسي واضح، إذ تبرأت غالبية الأصوات البربرية، ولا سيما في منطقة القبائل، من خطاب فرحات مهني، واعتبرته خيانة وطنية، بل خيانة لقضية الدفاع عن الخصوصية الثقافية البربرية نفسها (قبايلية، شاوية، مزابية، تارڤية…). فمن الصعب، في الوعي الجمعي القبائلي، وضعُ منطقة اقترن اسمها تاريخيًا بالمقاومة والثورة في السّلة نفسها مع مشروع انفصالي مدعوم خارجيًا. فالقبائل الذين يستحضرون رموزًا مثل لالة فاطمة نسومر سليلةُ الطريقة الرحمانية والعقيد عميروش لا يرون أنفسهم في خطاب يُنسب إلى شخص متهم بالتّنكر لإرث والده الشهيد، وبالتآمر على بلده مع فرنسا الاستعمارية، ومع الكيان الغاصب، الذي ارتبط اسمه في الوجدان العربي والإسلامي والإنساني بالاستعمار والفصل العنصري والابادة الجماعية، خاصة بعد فصل المآسي المؤلم والموثّق في غزة.
وختاما، تكشِف هذه القراءة في المحصلة، أن المحاولة الانفصالية في منطقة القبائل ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة رهانات تفكيكيّة قديمة تتجدد أدواتها بتجدد السّياقات الدولية، غير أن فشلها الداخلي يؤكد حقيقة راسخة مفادها أن الجزائر، بوحدة ذاكرتها الوطنية، عصيّة على مشاريع التقسيم وقادرة على إفشال محاولات الاستنزاف. وفي زمن التحولات الكبرى، كثيرًا ما تكون الدول التي تَفشل محاولات تفكيكها هي الأقدرُ، لاحقًا، على التّحول إلى أقطابٍ فاعلةٍ تتموضع في صلب مسار التاريخ، لا على هوامشه. ولعلّ في مثال الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بقطع النظر عن الموقف من توجهات النظام وخياراته الأيديولوجية، خيرُ دليلٍ على انتصار البلد المتنوع إثنيّا (أذاريين، عرب، فرس، اكراد، هزارا، بالوش) وعقائديا (شيعة وسنّة وزارادوشت ومسيحية ويهود)، في معركة التحديث والتصنيع والصمود في المواجهات العسكرية المعقدة رغم الحصار لما يقارب نصف قرن.





