الشرق الأوسطعربيعربي ودولي

الاستراتيجيا الفلسطينية في زمن الطوفان

لوبوان تي ان :

ربما يقول قائل أن الحديث عن الاستراتيجيا القلسطينية، في ظل المجازر والإبادة الجماعية ترفٌ يجب عدم الاقتراب منه، فالأولوية هي لوقف الأعمال الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني. صحيحٌ أن وقف الإبادة أولية الأولويّات، ولكن الصحيح أيضًا أن الاستراتيجية يجب أن تكون حاضرة على الدوام.

فما من معالجة صحيحة لاستحقاق ظرفي إلّا في ظل استراتيجية واضحة. وتزداد أهمية هذا الموضوع عندما تُطرح الحلول الدائمة للصراع العربي الصهيوني أثناء معالجة تداعيات السابع من أكتوبر. فقد استفاق العالم الغربي، بعد سبات أهل الكهف، على ضرورة حل هذا الصراع، وكأنه كان بحاجة إلى صاعق “الطوفان” ليكتشف أن هناك شعبًأ فلسطينيًّا وله قضية وحقوق، وأنّ إهمال ذلك سببٌ لتوتّرات إقليمية ودولية تهدّد مصالحه.

فقد رأينا مسارعة هذا الغرب بقيادة الولايات المتحدة الى المناداة بحل الدولتين مدخلًا لا غنى عنه لنجاح الحل الدائم في المنطقة. وتتوّج المسعى الغربي بإقدام ايرلندة واسبانيا والنروج وسلوفينيا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهل بتنا أمام استحقاق جدّي يتطلّب الاستعداد له؟ أم أن الأمر لا يختلف عن المناورات السابقة والوعود الكاذبة التي بنت أوهامًا لدى بعض الفلسطينيين؟ في كل الأحوال، وبغض النظر عن نوايا الغرب وأهدافه، تظل الاستراتيجية الفلسطينية الصحيحة الضمانة الأهم في حماية الحقوق الشرعية الفلسطينية، وفي حماية الحركة الوطنية من ارتكاب الأخطاء المميتة وإضاعة المسار السليم.

تتضمّن الاستراتيجية الهدف الأساسي المَنْوي تحقيقه وكذلك الخطة اللازمة للوصول إليه. وفي هذه المقالة سيتم الحديث حول الهدف المُفترَض أن تتبنّاه الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ليكون بوصلتها في عملية إنجاز كامل الحقوق الوطنية الفلسطينية. وللنجاح في ذلك لا بد من فهم الأسس التي يُبنى عليها الهدف الاستراتيجي.

الهدف الاستراتيجي بين الثبات والتغيير

يستجيب الهدف الاستراتيجي لمتطلبات مرحلة تاريخية متكاملة من حياة الشعوب، ويُعنى بحل التناقض الرئيسي الذي يميّزها. وبما أن الشعب الفلسطيني يعاني من الاحتلال الصهيوني الذي سلبه وطنه، وشرّدَ أكثر من نصفه إلى خارجه، وحرمه من حقّه في ممارسة تقرير مصيره، فإنّ المرحلة التاريخية التي يمر بها هذا الشعب هي التحرّر الوطني. إذن، التناقض الرئيسي في هذه المرحلة، هو التناقض بين الشعب الفلسطيني والإحتلال الصهيوني بكل تجلياته المادية والمعنوية. لذلك، فإن حل هذا التناقض يستوجب إلغاء مسبّباته، وتوفير الظروف المناسبة لممارسة عموم الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير على كامل أرض فلسطين، تكريسًا لوحدة الشعب، ووحدة الأرض، ووحدة الأرض والشعب.

قد يقال، بما أنّ الواقع متحرِّكٌ ومتغيّرٌ، فإن التناقض الرئيسي متغيِّر أيضًا. فما من ظاهرة لا تتغيّر؛ وكلّما طال زمن الصراع بين أطراف التناقض، كلّما برزت وقائع جديدة على الأرض تفرض نفسها على المعنيين وعلى الحل، وبالتالي على الأهداف، ممّا يستدعي أخذها بعين الاعتبار.

هذا صحيح، لكن إذا لم تتغيّر طبيعة المرحلة التاريخية، نوعيًّا، وكذلك التناقض الرئيس، فإن هذا لا يستدعي تغييرًا جوهريًّا في الهدف الاستراتيجي. مع ذلك، قد يتطلّب الأمر تعديلًا غير جوهري، لأخذ المستجدّات بعين الاعتبار، وذلك من أجل التوصّل لأفضل الحلول المناسبة.

 

دولة ما بعد التحرير

تتشكّل حركات التحرّرمن قوى مختلفة تعكس مصالح جميع الفئات الشعبية المتضرِّرة من الاستعمار، وتجتمع على هدف التحرير. إلا أن اجتماعها هذا لا يعني أنها متّفقة على ما بعده، وبالذات على ماهية الدولة المستقبلية. وتبني حركة التحرير، بعد انتصارها، دولة تشبهها. وغالبًا ما ترسم الفئة الأقوى والمهيمنة على مسارها شكل هذه الدولة.

فإذا كان التيار الأقوى ذا فكرٍ قومي، أو اشتراكي، أو ديني فإن الدولة ستكون قومية، أو اشتراكية أو دينية على التوالي. لذلك يجب عدم الانشغال كثيرًا بطبيعة الدولة المُزمع إقامتها إلّا عند إنجاز مهمة دحر الاستعمار.

وهذا لا يعني أن أحزابًا وقوى معينة يجب أن لا تحدّد لنفسها طبيعة الدولة التي تناضل من أجلها، وإنما يعني أن هدف التحرير هو الذي يتقدّم على ما عداه من أهداف، ولا يمكن القفزعنه لمعالجة قضايا أبعد منه.

حول الدولة الواحدة والدولتان كهدفٍ استراتيجي

حل الدولتين هو الأكثر رواجًا على الصعيد الدولي الرسمي. بدأ يحظى هذا الحل بالقبول في أواسط السبيعنات ووصل إلى أن يحوز على الإجماع بعد التوصّل إلى اتفاقيات أوسلو. بالرغم من مرور عشرات السنين على ذلك لم يتحقّق هذا الحل. والسبب، برأيي، أنه كان إسقاطًا إرادويًّا على الواقع. إذ قفز المعنيّون بهذا الحل عن طبيعة المرحلة، وعن أن الصراع هو بين المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال، وحاولوا إجراء عملية تجميلية للإستعمار الاستيطاني من دون معالجة علة الصراع. فكما ادعى “المجتمع الدولي” سابقًا (قبل النكبة)، أن الحل الأمثل للصراع بين اليهود والعرب الفلسطينيين هو تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، فتبيّن أن هذا لم يكن سوى إسقاطًا قهريًّا على أهل فلسطين والمنطقة، وكانت النتيجة حروبُا مستمرة إلى يومنا هذا.

وكما نرى، من مجرى الأحداث والتطوّرات، ومن زيادة التعقيدات في الصراع، وخاصة بعد تجربة أوسلو والتنامي السريع للمستوطنات في الضفة الغربية، فإن حل الدولتين بات، بنظر العديد من المفكّرين والناشطين السياسيين والشرائح الاجتماعية، مستحيلًا. لهذا، بادر البعض بطرح “الدولة الواحدة” كحل أمثل للصراع الدائر.

أمّا بالنسبة ل “الدولة الواحدة”، فبحسب ما ورد في  وثيقة “نحو فهمٍ أشمل لحل الدولة الواحدة” الصادرة بتاريخ 7/03/2021، فإن هذه الدولة هي: “دولة ديمقراطية واحدة على كامل فلسطين التاريخية، دولة المواطنين التي لا تميز بينهم على أساس القومية أو الدين أو العرق أو الجندر. ويشمل بناء هذه الدولة إستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، بكافة تجمعاته، وفي مقدمتهم اللاجئون….”. ومن أهم شروط تحقيقها: “هزيمة وتفكيك نظام الأبرتهايد الكولونيالي واستبداله بنظام ديمقراطي دستوري يضمن المواطنة المتساوية”

ينظر أصحاب هذا المشروع إلى الصراع  في فلسطين على أنه صراعٌ بين نظام عنصري وشعب تُمارس عليه العنصرية. يشوب هذه النظرة خللٌ منهجيٌّ فاضح. صحيح أن الحركة الصهيونية عنصرية بنشأتها، لكن  الكيان الذي سعت لإنشائه، ومن ثمّ اسسته في فلسطين، لم يكن لبناء نظامٍ عنصري يستغل السكّان الأصليين، وإنما لإحلال اليهود مكانهم ولإقامة كيانٍ يمنع نشوء كيانٍ عربي فلسطيني. لذلك، لن يكون علاج عنصرية الكيان سوى علاجٍ لعوارض المرض لا للمرض نفسه.

ويعني هذا، أن المدخل الصحيح لمعالجة القضية، التي بين أيدينا، هو في التركيز أولًا على أنها قضية تحرّر وطني من الاستعمار، وفي العمل على توفير الشروط المناسبة لتقويض البنيان الاستعماري في فلسطين، ومن ثمًّ معالجة القضايا الأخرى المُصاحبة، وكذلك المستجِدّة.

تتوخّى مقاربة حل “الدولة الواحدة”، من الفلسطينيين واليهود “الاسرائيليين”، النضال معًا من أجل هدفٍ مشترك، وهذا يتطلّب من الفئتين أن تكونا مؤهلتين للقيام بهذه المهمة. ويتمّ ذلك من خلال نشوء حركة متنامية داخل الفئتين تتبنّى هذا المشروع، وقادرة على جذب مناصرين له، لتصبح مؤثرة، ومن ثمّ حاسمة في مسار التطورات السياسية، وفي النهاية، لتُمسِكُ بمفاتيح حل الصراع العربي الصهيوني. فأين نحن من هذا؟ هل نسينا تجربة أوسلو؟ لقد جنحت القيادة الفلسطينية الحاكمة نحو سلام اوسلو واخذت معها شرائح واسعة من الفلسطينيين، فماذا حصل في الجانب الاسرائيلي؟ بدل الانخراط بالسلام، جنح المجتمع الاسرائيلي نحو مزيدٍ من التطرف. ولمّا لم يستطع هذا المجتمع هضم سلام أوسلو المُذِل للفلسطينيين، والذي أعطى الكيان الصهيوني اليد العُليا في كلّ  ما يمس العلاقة بين الطرفين، فهل هذا المجتمع مؤهلٌ لأن يقبل المشاركة المتساوية؟ وأين هي التيارات السياسية المؤهلة للسير في هذا المشروع؟

المجتمع اليهودي في هذا الكيان، باستناء قلّةٍ غير وازنة، لا يُظهِر أية مؤشّرات مشجّعة لنشوء تيّارٍ مناهضٍ للعنصرية، وفوق كلّ هذا هو ينحو نحو مزيدٍ من التطرّف. لذلك، وبناءً على واقع طرفي الصراع، وكذلك مؤشّرات مَنْحَى التطوّر المستقبلي لكليهما، لا أجد أية أرضية صالحة للبناء عليها من أجل نجاح هذا المقترح. وفي نهاية الأمر، عند إعطاء الأولوية لطبيعة النظام لا يكون هناك خلاف حول كيان الدولة وشرعيته، وإنما حول هذه الطبيعة، وهذا يطعن الحقوق الفلسطينية في الصميم. وكحركة تحرّر وطني لا بد من إعطاء الأولوية للتحرير، ومن يريد مكافحة عنصرية الكيان فإن مدخل ذلك هو المساهمة في حركة التحرير هذه.

 حسين قاسم *كاتب وباحث فلسطيني-

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى