
لم تكن نتائج المنتخب التونسي في كاس العرب مجرّد ارقام في جدول ترتيب، بل تحولت الى مرآة تعكس تداخلا معقدا بين الرياضة والسياسة، بعد تعادل مخيّب مع منتخب فلسطين اليوم، وهزيمة قاسية امام منتخب سوريا، رغم ان المنتخبين يخوضان البطولة في ظل ظروف حرب ودمار وتوتر يومي يثقل كاهل مجتمعهما ولاعبيهما.
في الظاهر، تبدو المباراة مجرد مواجهة كروية عادية، لكن في العمق، كانت تونس تواجه منتخبات تلعب بما يشبه “الروح الأخيرة”، منتخبات لا تمثل كرة قدم فقط، بل تمثل قضية شعب يقاوم من اجل البقاء، وهو ما ظهر جليا في الحضور البدني، والحافز الذهني، والاندفاع العاطفي لدى لاعبي فلسطين وسوريا.
فلسطين.. كرة القدم كفعل مقاومة
دخل المنتخب الفلسطيني، الذي فاز في اليوم الأول على قطر البلد المضيف، مباراته امام تونس وهو يحمل اكثر من خطة تكتيكية. كان يحمل على اكتاف لاعبيه وجعا جماعيا، وصورا يومية للدمار والدم، ورسائل شعب محاصر. هذا ما جعل التعادل امام تونس بطعم الانتصار الرمزي بالنسبة للفلسطينيين، وبطعم الخيبة من الجانب التونسي.
تونس التي امتلكت على الورق التفوق الفني والخبرة الدولية، بدت عاجزة عن فك شيفرات فريق يلعب بروح تتجاوز المنطق الكروي. فلسطين لم تلعب فقط من اجل النقاط، بل من اجل قضية، رسالة، وصوت يصرخ ان الحياة مستمرة رغم الدمار والخراب والقصف والموت…
هنا، اصطدمت البراغماتية التونسية بعاطفة فلسطينية جياشة، فكان التعادل بمثابة صفعة نفسية لنسور قرطاج.
سوريا.. منتخب خرج من تحت الركام
اما مباراة سوريا التي افتتحنا بها الدورة، فقد جاءت اثقل وقعا. منتخب قادم من سنوات حرب، تشرد جماعي، وبنية رياضية مهدمة، لكنه نجح في فرض منطقه على منتخب تونسي يعاني من ارتباك واضح في الهوية التكتيكية والذهنيّة.
الهزيمة امام سوريا لم تكن مجرد خسارة ثلاث نقاط، بل هزيمة في قراءة الواقع. فبينما لعب السوريون بذهنية “لا شيء لنخسره”، دخلت تونس بذهنية “التفوق الكاذب”، وهو فرق يصنعه علم النفس قبل ان تصنعه الاقدام.
ازمة تونسية فنية ام ذهنية؟
اليوم وبعد “النتيجة الفضيحة” في المبارتين، تعالت الاصوات محمّلة الجهاز الفني مسؤولية الاخفاق، لكن الواقع اعقد من مجرد اخطاء مدرب او مردود لاعب.
المنتخب التونسي يعيش منذ فترة ارتباكا في الرؤية وغياب هوية لعب واضحة وتذبذب في الاستقرار الفني وضغط جماهيري واعلامي مبالغ فيه ومناخ عام من الشك في كل فشل.. كل ذلك جعل اللاعبين يدخلون المقابلتين مثقلين بالحسابات، في حين دخل خصومهم متحررين من كل شيء.
عندما تتحول المباراة الى رسالة سياسية
ما حدث في كاس العرب يثبت من جديد ان الرياضة في منطقتنا لم تعد معزولة عن السياسة. فلسطين وسوريا لم تلعبا فقط ضد تونس، بل لعبتا ضد صورة الهشاشة التي يريد العالم ان يلصقها بهما.
في المقابل، وجدت تونس نفسها فجأة في موقع “المنتخب الذي لا يملك عذر الخسارة”، لا حرب، لا دمار، لا حصار. فقط كرة قدم… ومع ذلك تعثرت.
وهنا تكمن المفارقة القاسية، منتخبات تلعب تحت القصف انتصرت معنويا، ومنتخب يلعب في الاستقرار ومتوفر له كل شيء سقط فنيا ونفسيا.
ماذا بعد؟
الهزيمتان يجب ان تكونا جرس انذار، لا فقط على مستوى الاداء، بل على مستوى الذهنية الكروية في تونس، هل نملك مشروعا رياضيا واضحا؟ هل نعد لاعبين قادرين على تحمل الضغط؟ هل نربط الانتصار فقط بالمواهب ام نبنيه على شخصية جماعية حقيقية؟
كاس العرب عرّت الكثير من الاوهام، وكشفت ان كرة القدم ليست فقط تمريرات وخططا، بل ارادة، سياقا، ورسالة.
بين تعادل امام فلسطين وهزيمة امام سوريا، خسرت تونس اكثر من مجرد نقاط. خسرت فرصة تأكيد تفوقها المعنوي والذهني، ووجدت نفسها امام مرآة مؤلمة في عالم عربي مثقل بالجراح، المنتصر ليس دائما من يملك الاستقرار، بل من يملك القضية ويؤمن بها.





