
لوبوان تي ان :
تأسس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية يوم 17 جـانفي 1947 في ظرف استعماري خاص عندما كان لا بد للدولة التونسية آنذاك أن تكوّن الاقتصاد التونسي رافدا من روافد الاستقلال المرغوب بعد أن انشق الفرجاني بلحاج عمّار ضمن مناصري التيّار الوطني البورقيبي ضدّ التيار القومي العربي من جامعة الصنايعية وصغار التجار في ربيع سنة 1946. وتباعا لذلك تم في 16 و17 جانفي 1947 تأسيس المنظّمة تحت اسم “اتحاد نقابات الصنايعيّة وصغار التجّار بالقطر التونسي”. كان المرحوم المناضل الشهيد فرحات حشاد من الشخصيات المساهمة في تأسيس الاتحاد وحضر المؤتمر التأسيسي بصفته أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل-والذي رأى النور قبله بسنة- إيمانا منه أن الجمعيات التي ستصبح منظمات وطنية فيما بعد ستنتشل الاقتصاد التونسي من نكسته وستجمع شمل الفاعلين الاقتصاديين وسينعكس ذلك وجوبا على افتكاك استقلال البلاد عن طريق إدماج اقتصادي. انتخب محمد شمام رئيسا والفرجاني بلحاج عمار كاتبا عاما والتأم هذا المؤتمر تحت شعار “اليوم ينهض الاقتصاد الوطني، اليوم يكتب له النجاح”.
من خلال المؤتمرات المتعاقبة والعمل النقابي الزّخم، توضّحت تدريجيا توجّهات الاتحاد في الدفاع عن مصالح صغار التجّار والصنايعيّة باستبسال وضراوة مسهّلا بذلك التناغم والوئام والوحدة بين الأعراف وما ينجرّ عنه من متانة في بنيان الاقتصاد وعن طريقه في النضال الوطني المقدّس من اجل الاستقلال-والذي بدأ يقترب شيئا فشيئا-في كامل التضامن والتكامل، كلّ ذلك تحت رعاية وتوجيهات الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد المنبثق بدوره عن رحم مؤتمر قصر هلال 1934. ونجح الاتحاد بذكاء وبراعة في تهميش إشعاع جامعة الصنايعية ومن ذلك نفوذ الحزب الدستوري القديم.
في المؤتمر الثاني للمنظّمة سنة 1948، غيّر الاتحاد تسميته وأصبح الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة تحت شعار جامع وواضح المعالم ” وهوالجبهة الوطنيّة المتّحدة” وكان ذلك خروجا واضحا إلى دائرة الضوء في مساندة الحركة الوطنيّة وكان قرارا حاذقا ومحسوبا بغرض التعبئة والحشد ضد الاستعمار. وفي خضمّ ذلك سجن عدد مهم من قياديي الاتحاد وهم المناضلون الفرجاني بلحاج عمار ومحمود الزرزري ومحمد الأصفر بن جراد وأندري باروش ومحمد سعد.
قبيل الاستقلال نال الاتحاد إشعاعا أكبر وأصبحت مطالبه جوهرية جريئة وجامعة تجاوزت بكثير المطالب القطاعية لتحضن مطالب شعبية في الاستقلال وضرورة طرد الإستعمار وكان ذلك نقطة قوّة، بعد الاستقلال، في نيل شعبية وتأييد الرأي العام. بعد الاستقلال، دخل الاتحاد في فترات ازدهار متصاعد تخلّلتها بعض الأزمات أولها أزمة البورقيبيين واليوسفيين التي بدأت تنخر اتحاد الصناعة والتجارة من الداخل ولكن الفرجاني بلحاج عمار تصرّف بحكمة وحنكة رجل دولة لتخطّي هذا الخلاف وتطويق المناضلين. بعد ذلك ببعض السنوات تعرّض القطـاع الخــاص لنكسة جديدة إثر تقلّد أحمد بن صالح المنهج الشيوعي في إطار سياسة التعاضد بداية من الستينات وكانت معضلة ومحنة مريرة للتجار والحرفيين والصناعيين حيث تقهقرت الأحوال الاقتصادية للبلاد وتعثر الناتج الداخلي الخام وأفرز احتقانا اجتماعيا غير مسبوق بالإضافة إلى أزمة سياسية خــانقة صلب الحكومة وبين الوزراء أنفسهم…
وبعد هذه العشر العجاف اقتنع الحبيب بورقيبة بضرورة التخلّي عن سياسة التعاضد ودعم القطاع الخاص فقام بتعيين رفيق دربه الهادي نويرة محافظ البنك المركزي على رأس الحكومة كوزير أول. كان الهـادي نويرة رجل قانون واقتصاد متألق وكانت له من الحنكة وحسن التصرف والبديهة وحسن الطباع مـا أتاح له بأن يعاود جمع شتات الوزراء والفاعلين الاقتصاديين وكذلك المنظمات الوطنية والتي تحوّلت بفضله إلى منظمات ذات مصلحة عمومية عن طريق قانون المالية لسنة 1975 عدد 101 لسنة 1974 وكان اتحاد الصناعة والتجارة من أهمّها يأطّر الأعراف ويمثّلهم في ذات الوقت. حالت الحياة السياسية حول الحزب الإشتراكي الدستوري، حيث وقع تنظيم منظومة من الدوائر التجاذبية متحدة المركز، لتمثيل مختلف أنشطة البلاد. كان الوزير الأول الهادي نويرة عن طريق الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية يشجع القطـاع الخاص والمبادرة الشخصيّة. واستعمل اتحاد الأعراف كل وزنه لتفعيل الشراكة بين كل المتداخلين وتحقيق الحوار والتناغم بين المنظمات الوطنية دائما تحت النظرة الاستشرافية للأب الروحي للوطن رئيس الدولة الزعيم الحبيب بورقيبة وملازمه الوزير الأول الهادي نويرة حين قام هذا الأخير بإرساء الحوار الاجتماعي عن طريق الاتفاقية الإطارية المشتركة.
كما قام بدفع انطلاق المؤسسات التحويلية المصدّرة عن طريق قانون 1972 دائما تحت مساندة جليلة الشأن من اتحاد الصناعة والتجارة. تولّى الفرجاني بلحاج عمّار رئاسة الاتحــاد إلى حدود صائفة 1988 حيث تم انتخاب الهادي الجيلاني رئيسا للمنظمة والذي أعطى دفعة جديدة للاتحاد في دفع الاقتصاد وإصلاحه وخاصّة في انفتاحه على نمط السوق الحرة والتنافس وضرورة مرافقة المؤسسات في سياسة التأهيل الشامل لتعصير أساليب الإنتاج وإدارة التصرّف فيهـا مواكبة للتحوّلات الاقتصادية وللقدرة على منافسة المنتجات الأجنبية مع إعطاء الجانب الاجتماعي كل ما يستحقه من المتابعة عن طريق المشاركة الفعّالة بنجاح في المفاوضات الاجـتماعـية والتي أصبحت دورية كل ثلاث سنوات.
في سنة 1995 انفتح الاقتصاد الوطني على السوق الأوروبـية ووجدت المؤسسات التونسية نفسهــا في نظام تنافسي حر ولكن ذلك لم يحدّ من عزيمتهـا ولا من مردوديتهــا بل اجتازت ذلك بنجاح ودعم ذلك قيادة الاتحاد، ممثلا في شخص رئيسه، لمنظمة الأعراف العالمية وكذلك الاتحاد الإفريقي لأصحاب المؤسسات وعضوية غرفة التجارة والصناعة العالمية والاتحاد المتوسّطي لأصحاب الأعمال. انتخب الهادي الجيلاني على التوالي 4 مرّات في 4 مؤتمرات متتالية من 1990 إلى 2006 وتواصلت رئاسته إلى حدود جانفي 2011 لكن ذلك لم يقلل من شأن الاتحاد وقدرته وعزيمته في تحمّل مسؤوليته في تلك الظروف الثورية الاستثنائية الرهيبة حيث اتصل بمنظوريه ملتمسا منهم القيام بالواجب في تأمين احتياجات المواطنين من المواد الأساسية وضرورة فتح المحلات التجارية والمصانع وبالتوازي لعب دورا محوريا في متابعة التعويضات التي حصلت للمؤسسات المنهوبة والمحروقة وأيضا التصدّي لمحاولات التنكيل التي طالت أصحاب الأعمال وقتها.
يعد ذلك، تولّى تسيير الاتحاد في خطة منسق ثم رئيسا منتخبا السيد حمادي بن سدرين في الفترة المتراوحة من مــارس إلى ماي 2011 ثم انتخبت بعدها السيدة وداد بوشماوي من المكتب التنفيذي لترأس المنظّمة إلى حدود المؤتمر الوطني الخامس عشر حيث وقع انتخابها من النواب على نطاق واسع ولأوّل مرّة في تاريخ المنظمة تترأسها امرأة. وبخلاف هذا التحوّل الجوهري في تاريخ المنظّمة، سجّل المؤتمر الخامس عشر تحوّلين آخرين تمثل الأوّل في تغيير القانون الأساسي والقانون الداخلي للاتحاد أما الثاني فكان خيار المؤتمر في انتهاج تموقع ثابت في بقاء الاتحاد دائما وبدون استثناء خارج إطار التجاذبات السياسية مهما كانت.
في صائفة 2013 وبعد المؤتمر الوطني مباشرة شهدت الساحة العامة احتقانا سياسيا شديدا تحوّل شيئا فشيئا إلى أزمة سياسية اقترنت بأزمة اقتصادية واجتماعية خانقة أدخلت البلاد في منزلقات خطيرة جعلتها على مرمى حجر من الحرب الأهليّة وكان الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية أوّل من استبق للتنبيه بذلك ومن ثم حذّر المجتمع والمنظّمات، وتحمّل مسؤوليته في الانتقال الديمقراطي قناعة منه بأن الحوار الوطني الذي يرعاه ضمن رباعي المنظمات سيجتاز بفضل خـارطة الطريق الأزمات وسيخرج من عنق الزجاجة وهو فعلا ما حصل.
كـانت التجربة فريدة من نوعها في العالم حوّلت اهتمام العالم على بلادنا وعلى تجربة رباعي المنظمات أو كيف تقوم مؤسسات غير دستورية بإنقاذ بلاد من حضيض الأزمات السياسية وتوّجت التجربة أخيرا بالنجاح وتوّج الرباعي، بدوره، بجائزة نوبل للسلام لسنة 2015 وأصبح محل دراسة في مسيرة التجارب الديمقراطيّة. ويعتبر تتويج الاتحاد بجائزة نوبل اعترافا وتتويجا لكامل مسيرته النضالية منذ سنة 1947… هذا علاوة أنه تحوّل إلى موضوع دراسة في سجلات كليات الحقوق والعلوم السياسية حول العالم، إضافة إلى المدارس العليا للإدارة.
بقلم أنيس الصمعي




