
بعد الزيارة الرسمية التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن والتي تواصلت لمدة ثلاثة أيام، وبعيدا عن الصفقات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية، لا بد من الوقوف وقراءة في قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بيع طائرات F-35 للمملكة السعودية كجزء من حزمة دفاعية واستثمارية شاملة. الإعلان لم يكن مجرد صفقة سلاح، بل جاء ضمن اتفاقية تصنّف من أوسع الاتفاقات الدفاعية والاقتصادية بين البلدين على مر التاريخ.
الاهتمام الإعلامي والدبلوماسي بهذه الصفقة لا يعود فقط إلى أهمية السلاح ذاته، بل إلى ما تمثّله من تحوّل استراتيجي في علاقات السعودية-أميركا، وإعادة صياغة لتوازنات القوة في الشرق الأوسط. فبالنسبة للرياض، الحصول على F-35 يعكس سعيها لتحديث بنيتها العسكرية، وتعزيز قدراتها في إطار رؤيتها لـ “عصر ما بعد النفط”، وفي إطار تقليص تبعيتها لمجرد شراء بعض الأسلحة غير الاستراتيجية.
F-35 تقلب المعادلة
وتعتبر طائرات F-35 من أكثر المقاتلات تطورا في العالم. من مميزاتها الأساسية، التخفي (stealth)، أنظمة استشعار متقدمة، شبكات اتصال ومعلومات تتيح “وعي ميداني” متكامل بمعنى أن الطائرة لا تقاتل فقط، بل تجمع معلومات استخباراتية، ترصد التهديدات، وتشارك البيانات في الزمن الحقيقي.
عمليا، هذا يعني أن F-35 ليست مجرد طائرة نفّاثة نحو أهداف بفضل سرعتها ومدى أسلحتها، بل منصة حرب متعددة الأدوار، مضادة للطيران، ضربات أرضية دقيقة، استطلاع، حرب الكترونية، دعم للقوات البرية والبحرية، والمشاركة في عمليات مشتركة.
عند دمج F-35 مع باقي قدرات سلاح الجو السعودي الحالية، تتحول هذه إلى قوة جوية متكاملة ومتعددة الطبقات، وهو ما يضع الرياض في مرتبة فنية متقدمة بين الدول في المنطقة، وربما يقربها من مستوى الدول الكبرى في مجال الدفاع.
انعكاسات الصفقة على التوازن الإقليمي
حتى الآن، إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تشغّل F-35 . فبيع F-35 للسعودية، حتى إذا جاء بإصدارات “مخفّفة” مقارنة بتلك الإسرائيلية (وهو ما تشير إليه تقارير أميركية رسمية). إذ ما يزال التخوّف من أن الصفقة تفقد إسرائيل ما يعرف بالميزة النوعية العسكرية (Qualitative Military Edge) في المنطقة.
وحتى لو بقي الفارق التقني مع إسرائيل قائما، فدخول السعودية حلبة الجيل الخامس سيغير ديناميكية الردع، وسيجعل أي حسابات عسكرية في المنطقة أكثر تعقيدا.
كما ان الصفقة تمثل ضغط إضافي على خصوم السعودية المعروفين وكل من يهدّد أمن الخليج. فقدرات F-35 على العمل في “فضاء محظور” (أي فوق دفاعات متقدمة)، ودقة استهدافها، قد تمكن الرياض من استهداف مواقع استراتيجية (صواريخ باليستية، بنى تحتية، مراكز قيادة…) ما يرفع من تكلفة أي عدوان، ويعزّز قدرة الردع، خصوصا في مواجهة قدرات نووية أو صاروخية لدى بعض الخصوم.
بمعنى آخر، فإن الصفقة ستمنح السعودية خيار استخدام ردع تقني متقدم بدلا من الاعتماد فقط على حلفاء أو تحالفات.
إعادة ترتيب أولويات الحلفاء ودخول سياقات تحالف جديدة
ومن المتوقع كذلك أن تمنح الصفقة الرياض وزنا أكبر عند صياغة معادلات أمنية في الخليج، وقد تدفع دولا أخرى للطلب على قدرات مماثلة ما قد يعيد صياغة الخارطة الجوية في الشرق الأوسط تدريجيا.
فالصفقة ليست فقط بيع طائرات، بل تثبيت رسمي لعلاقة استراتيجية معمّقة. فقرار إدارة ترمب بيع F-35 للسعودية يأتي بعد حزمة ضخمة من الصفقات الدفاعية الاخرى، ورافقه تعهدات عديدة في الطاقة، الاستثمار، التكنولوجيا وغيرها وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة ترى في السعودية شريكا مركزيا لتوازن نفوذها في المنطقة.
اما من جانب الرياض، فإن السعي إلى الحصول على صفقة الـ F-35 يعد رمز للطموح في أن تكون المملكة قوة جيو-عسكرية لها ثقل مستقل، وليس مجرد مستورد سلاح. لذلك عملت السلطات السعودية على أن تكون الصفقة تتماشى مع توجهات تحديث القوات المسلحة ضمن رؤية سعودية أوسع.
كما أن الصفقة تعيد التأكيد على أن “التحالف مع أميركا” لا يزال أولوية في مسار الرياض- رغم المحاولات السابقة لتنويع الشركاء- ولكن ضمن إطار علاقات طويلة الأمد وتبادل مصالح.
إسرائيل في البال
وعلى الرغم من أهمية الصفقة وتأثيراتها المراهنة والمستقبلية على التوازنات في منطقة الشرق الأوسط، فانه من المؤكد ان إدارة ترامب راعن الطرف الإسرائيلي حليفها الدائم الذي لا نعتقد انه قبل بحصول مثل هذه الصفقة مع دولة عربية لها مكانتها ونفوذها الإقليمي. لذلك فان الخبراء يرون ان ترامب وادارته وضعا هذا الجانب بعين الاعتبار لذلك من المتوقع أولا، أن تقدم الولايات المتحدة للسعودية إصدارات “مخفّفة” من الـ F-35، أقل تطورا من تلك الحائزة عليها إسرائيل.
ثانيا، الصفقة تحتاج موافقة برلمانية أميركية -وهو أمر حساس سيثير جدلا داخل الكونغرس، خصوصا في ضوء انتقادات سابقة لسياسة بيع السلاح للسعودية.
ثالثاً، هناك مخاوف من جهة الاستخبارات الأمريكية من احتمال تسريب تكنولوجيا F-35 إلى جهات ثالثة (خصوصا إذا توسّعت العلاقة السعودية مع دول كالصين وغيرها).
رابعا، من الناحية الفنية: تشغيل F-35 يتطلب بنى تحتية لوجستية ضخمة (وقود، صيانة، قواعد متقدمة، دعم ميداني…) وهذا يعني استثمارا ضخما من السعودية مما قد يؤخّر فعليا تنفيذ القدرات الكاملة طيلة سنوات.
ومن المتوقع تنفيذ الصفقة كاملة بإصدارات F-35A كاملة مزوّدة بأنظمة تخفي واستشعار وبدء تسليم أول دفعة خلال 4-7 سنوات، بعد بناء بنى تحتية عسكرية متكاملة، تدريب طيارين.. لكن المؤكد أن إدماج الطائرات ضمن أسطول السعودية الجوي العسكري سيجعل من هذه الاخيرة قوة جوية ذات تأثير قوي وسيخلق توازنا جديدا في الخليج وسيمثل ردعا حقيقيا ضد التهديدات مع إعادة ترتيب التحالفات…
نقطة انطلاق لتسليح جوّي عربي متطور؟
من الثابت أنه إذا نجحت الصفقة مع السعودية، قد يصير طلب الـ F-35 أو قدرات مماثلة خيارا مفتوحا لدول خليجية وعربية أخرى، ما قد يرفع سقف التسلّح ويعيد رسم خريطة القوة الجوية في العالم العربي.
فامتلاك طائرة الجيل الخامس يمنح صفة “فاعل قوة” للسعودية في أي مفاوضات أمنية أو سياسية مع أمريكا، وكذلك مع خصوم محتملين وحتى مع حلفاء.
فالردع لم يعد يقوم فقط على التحالفات أو صفقات سلاح متوسطة، بل على قدرات متقدمة يمكن لواحد من العرب أن يمتلكها. هذا قد يقلّل الاعتماد على تحالفات خارجية، ويزيد من الفرص للاستقلالية الاستراتيجية.
وخلاصة القول، تبقى صفق الـ F-35 للسعودية صفقة تتجاوز بكثير حدود “بيع طائرات” إلى “لحظة فاصلة” في تاريخ العلاقات السعودية-الأميركية، وفي موازين القوى في الشرق الأوسط. صفقة تعكس رغبة سعودية في تحديث قدراتها العسكرية والتحوّل إلى قوة مؤثرة،
صفقة تؤكد ثقة أمريكية بضرورة إعادة إعمار وتقوية تحالف استراتيجي مع الرياض، واستعداد امريكي لتعديل بعض التوازنات التاريخية الطويلة (خصوصا التفوّق العسكري الإسرائيلي) لتحقيق تحالفات جديدة وسياقات أمنية وسياسية معادَلة.
لكن الطريق إلى تحقيق “قوة مؤثرة فعليا” ليس مفروشا بالورود كما يعتقد البعض، فالمتطلبات التقنية، اللوجستية، السياسية، والضغوط الدولية داخل أمريكا وخارجها، كلها تجعل من الصفقة اختبارا لصدق النوايا وللقبول بتحوّل حقيقي في التوازنات والتحالفات الدولية، وليس مجرد إعلان رمزي وصفقة تجارية فحسب.





