
لوبوان تي ان:
في الحقيقة لا توجد صيغة واحدة في العالم في التعامل مع ملفات الفساد المالي،حيث اعتمدت كثير من الدول مقاربات متعددة بعد عمليات الانتقال السياسي،فهناك دول اقتصرت على المحاسبة والمصالحة في مجال الانتهاكات السياسية على غرار المغرب باعتبار ان الانتقال كان من داخل النظام فقد تجنب فتح ملفات الفساد المالي للالغرشيا الاقتصادية التي تشكل قاعدة الحكم واقتصر على الانتهاكات السياسية في حين اعتمدت الارجنتين المقاربة القضائية الصارمة في الانتهاكات السياسية والفساد المالي واحتكمت دول اخرى الى نوع من التسويات مع الفساد المالي مقابل استرجاع جزء من الاموال المنهوبة على غرار الفلبين ودول افريقية،وهناك نماذج اعتمدت على ما يمكن تسميته مسار سياسي بحت في استرجاع جزء من الاموال مثل روسيا والسعودية ومصر الى حد ما ولو بطريقة اكثر هدوء من روسيا والسعودية …
تونس اختارت بعد 25 جويلية 2021 مقاربة ما عرف بالصلح الجزائي وهو خيار دافع عليه الرئيس الحالي قيس سعيد حتى قبل وصوله الى سدة الرئاسة مستفيدا من فشل هيئة الحقيقة والكرامة في هذا الملف خاصة.
لكن وحتى 2025 لم يسمع التونسيون عن انجازات كبيرة للجنة الوطنية للصلح الجزائي وربما نسيها الناس وهي اللجنة التي تنفق عليها الدولة اجور وسيارات ومقرات ومصاريف اخرى من جيوب الشعب الكريم حتى تسترجع له امواله المنهوبة ،الى ان جاء الافراج المباغت عن رجل الاعمال وامبراطور الزيت المخلوفي مقابل مبلغ مالي كبير ليعود الحديث عن الصلح الجزائي واسترجاع الاموال المنهوبة للواجهة مرة اخرى ووصل ذروته مع المبلغ المتداول كصلح مع رجل الاعمال مروان المبروك بغض النظر عن مدى دقة الرقم فالأكيد نحن امام واحد من اهم مراكز القوى في العائلات الاقتصادية الحاكمة والمتحكمة في الاقتصاد والسياسة.
اذا باستثناء ما تم تداوله مؤخرا لا معطيات دقيقة الى حد الآن حول عمل لجنة الصلح الجزائي،ولكن ما يمكن ملاحظته ان اللجنة جاءت لتنفيذ فكرة قائمة اساسا على ربح الوقت كبديل عن مسار قضائي عادي سيكون طويلا ولكنها فشلت في ذلك الى حد الآن على الأقل،الامر الثاني يبدو لي انها عملها متأثر جدا بالمناخ السياسي العام في البلاد وكنت تحدثت عن هذا سابقا حيث في مثل هذه الحالات يجنح المعنيين بقضايا الفساد المالي الى الصلح اذا تيقنوا من ان مرحلتهم السياسية انتهت وان الامر حسم للمرحلة الجديدة اما اذا شعروا بهشاشة المنظومة الجديدة وان الصراع لم يحسم فالاكيد سيكون هناك تلكأ كبير في ذهابهم للصلح وسيجنحون للمماطلة في انتظار تغير الاوضاع السياسية واعتقد ان هذا ما حصل،فاستمرار الصراع وتصاعده يعتبر مناخ مناسب لهؤلاء لربح الوقت على الأقل والاستفادة منه حيث حول بعض “الناشطين ” رجال اعمال فاسدين الى مساجين سياسيين يرفعون صورهم في الاحتجاجات .
صيغة الصلح الجزائي في رأينا اذا طبقت بدقة وسرعة مع رجال الاعمال الذين حققوا فوائد كبيرة مستفيدين من ترسانة القوانين التي وضعت على مقاسهم ومن قربهم من انظمة الحكم يمكن ان تعطي نتائج مالية حينية تحتاجها الدولة وتنقي جزئيا المناخ العام ولكن هذا سيكون كارثة اذا استفاد منه رجال اعمال ارتكبوا جرائم اخرى ترتقي الى مستوى الارهاب كتبييض الاموال او تجارة السلاح لصالح جماعات ارهابية او تسفير او غيره فهؤلا يجب ان يردوا اموال الشعب التي نهبوها ويحاسبون قضائيا على جرائمهم .
ولكن ايضا يجب الانتباه جيدا الى ان الفساد لم يعد حدثا عرضيّا يمكن معالجته بالقضاء فقط، وإنما بات عاملا ضروريا لازدهار سلطة رأس المال المعولم،وهو ما يتطلب ايضا مع المسار الصلحي والمسار القضائي تغيير جذري في بنية الاقتصاد التونسي واضعاف سلطة الالغرشيا او الريع ،فترسانة القوانين التي تحكم البلاد منذ عقود طويلة هي قوانين هذه العائلات فحتى هناك من يسمون بأثرياء قوانين المالية فمثلا لو قمت بصلح مع اي واحد فيهم مقابل مالي ضخم يمكنه استرجاعه بسرعة البرق على حساب الشعب طالما المكينة جاهزة وتنتظره داخل البيروقراطية وفي التشريعات وفي المجالس المنتخبة وحتى في مستوى الوعي العام.
حيث كنا في تونس والوطن العربي أكبر الخاسرين في حقبة العولمة والأحادية القطبية فقد تعاملت الانظمة مع المرحلة من موقع التبعية المطلقة للرأسمالية العالمية وليس من منطلق المصلحة الوطنية، ما نتج عنه:
أ- إغراق بلداننا بالديون الباهظة وتدمير قطاعات الإنتاج
ب- خوصصة القطاع العام ووضعه في قبضة الرأسمالية العالمية
ج- إحداث تشوهات خطيرة وغير مسبوقة في البنية الاجتماعية، وتشويه الوعي والانتماء الوطنيين
د- الاستجابة المطلقة للمشاريع الجيوسياسية الّتي فرضتها الولايات المتحدة على منطقتنا
هـ- لعب دور وظيفي مباشر، في تدمير الدول العربية وإغراقها في أتون حروب أهلية مدمرة، كما حصل في سوريا واليمن وليبيا والعراق.
وهذا ناتج عن طبيعة الحكم في بلداننا وعن طبيعة ما يمكن ان يسمى بالراسمالية المحلية ففي بلداننا العربية يتبدد الخط الفاصل بين الأموال العامة والخاصة، ما يخلق امتيازات مهمة لهذه العائلات ويفاقم الفساد، والنزعة الزبائنية، ويعيق الرقابة والمحاسبة، ويسمح لأعضاء هذه المجموعة بمواصلة “شفط المال العام” وتقاسمه في ما بينهم، ثم وضعه في حسابات سرّية في الخارج.
كذلك تتعزز سلطة هذه النخبة بفعل توطيد أركان نظام إقتصادي ريعي غير منتج يقوم على المضاربات المالية والعقارية والخدمات، ويحافظ على نفسه عبر تعميق الانقسامات الدينية والعائلية والإثنية والطائفية، ومعها الفساد والزبائنية.
وتشدد كثير من الدراسات في الغرب على صعوبة الاصلاحات في بلداننا الى حد انها تبدو مستحيلة احيانا . فالنخب السياسية الحاكمة ليس لديها أي حافز لمعالجة مشكلة التفاوتات الاجتماعية بسبب كونها المستفيد الأكبر منها، وهي تدفعها إلى تقويض أي أصلاحات تمس مصالحها وتتجاهل هذه التقارير عمدا وهذا الاهم العلاقة الوطيدة بين منظومة الفساد الهائلة التي تنسجها هذه النخبة في الوطن العربي وبين نظام الفساد العام في العولمة التكنو- رأسمالية، إلا أن مواصلة دعم الغرب للسلطات السياسية- المالية- الأمنية الحاكمة، ومنع أي إجراءات قانونية لملاحقة الأموال السرية الضخمة التي ترسلها إلى المؤسسات الغربية، يكشفان عن مدى التلاحم والتنسيق بين الطرفين، على رغم كل الضجيج الصوتي الغربي حول الديمقراطية والشفافية والعدالة ورفض التفاوتات الاجتماعية.
ففي خاتمة المطاف، السياسات النيوليبرالية الفاسدة لا تولد في دور الأيتام في الوطن العربي وجواره الإقليمي، بل لها أب أسمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأم اسمها طبقة الرأسمالية العالمية،ووكلائها من الراسماليين المحليين.
فنتيجة هذا تقع تونس ضمن منطقة الشرق الأوسط أي الوطن العربي والعالم الاسلامي وهي اكبر منطقة في العالم من حيث اللامساواة والتفاوت الاجتماعي بين حفنة قليلة من العائلات التي تملك مقدرات بلدان المنطقة وبين اغلبية كاسحة لا تملك شيئا. حيث تشير التقارير في منطقتنا الى ان تطبيق السياسات النيوليبرالية ما بين 1998 و2016 جعلت اكثر من 64 % من الدخل القومي الاقليمي تذهب الى 10% من الناس فقط .
اردت قول من كل هذا سواء طبقنا مقاربة الصلح الجزائي اوحتى المحاسبة القضائية اذا لم تتنزل ضمن رؤية شاملة لاعادة بناء الاقتصاد وبناء النظام السياسي نفسه خارج سيطرة الشبكة المتشعّبة المشكّلة من حفنة من العائلات الوكيلة , سيكون مجرد الامر مجرد تعديلات طفيفة ومؤقّتة و إضفاء لمساحيق اجتماعية بما يسمح لهذه العائلات بإعادة إنتاج نفسها.
محسن النابتي




