
تونس-لوبوان –كتب سفيان رجب
سنتان مرّتا على يومٍ غيّر وجه الصراع في الشرق الأوسط. في السابع من أكتوبر 2023، نفّذت حركة «حماس» عملية غير مسبوقة في العمق الإسرائيلي، وصفت بأنها الأدق والاهم منذ عقود، وأعادت إلى الواجهة كل التناقضات التي حاول العالم طمسها في القضية الفلسطينية.
ساعات قليلة من الهجوم، فتحت بعدها أبواب الجحيم على غزة، ودخل الإقليم في حرب طويلة حصدت عشرات آلاف الأرواح، ودمّرت مدنًا بكاملها، وانتهت – أو كادت – بصفقةٍ ترعاها واشنطن، وصفت بأنها تسوية قسرية تنهي الحرب ولا تنهي أسبابها.
من «طوفان الأقصى» إلى الطوفان الإسرائيلي
في فجر 7 أكتوبر 2023، شنّت «كتائب القسام» وفصائل المقاومة الفلسطينية هجوما مركّبا برّيا وجوّيا وبحريا استهدف مواقع إسرائيلية في غلاف غزة.
عملية «طوفان الأقصى» باغتت إسرائيل، وأسقطت أسطورة «الجيش الذي لا يقهر». أكثر من 1332 قتيل إسرائيلي، وعشرات الأسرى، وانهيار جزئي لمنظومة الردع والاستخبارات، جعلت من ذلك اليوم حدثا مفصليا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
لكنّ الردّ الإسرائيلي كان أعنف وأوسع. حملة قصف غير مسبوقة، وحصار شامل، وعمليات برّية متكررة حول قطاع لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا. تحوّل القطاع إلى أنقاض، أحياء سويت بالأرض، ومنازل دفنت عائلات كاملة تحتها، وبنى تحتية صارت رمادًا.
مأساة إنسانية بحجم نكبة جديدة
عامان من الحرب حصدت أكثر من 42 ألف شهيد، أغلبهم من النساء والأطفال، وفق تقديرات الأمم المتحدة ووزارة الصحة في غزة. مئات آلاف الجرحى والمصابين، وأكثر من مليون ونصف نازح يعيشون في خيام أو تحت الركام، بلا دواء ولا ماء ولا غذاء كاف.
تحوّلت غزة إلى أكبر مأساة إنسانية في القرن الحادي والعشرين، ومرآة لعجز العالم. فمجلس الأمن فشل في وقف الحرب رغم عشرات الجلسات، والفيتو الأميركي كان حاضرا كلما اقتربت قرارات وقف إطلاق النار من التمرير.
أما المساعدات الإنسانية، فبقيت رهينة «المعابر» والمفاوضات، تستخدمها إسرائيل أداة ضغط، وتوظفها القوى الكبرى ورقة تفاوض.
حرب الرواية.. بين الإرهاب والمقاومة
لم تكن حرب السلاح وحدها التي اشتعلت في غزة، بل أيضا حرب الصورة والرواية.
إسرائيل قدّمت عمليتها العسكرية على أنها «دفاع عن النفس» ضد «إرهاب حماس»، بينما اعتبر الفلسطينيون ومن ورائهم الشعوب العربية والإسلامية أنّ ما يحدث هو إبادة ممنهجة تستهدف شعبا أعزل.
في الغرب، تصدّعت صورة إسرائيل لأول مرة بهذا الشكل؛ خرجت مظاهرات ضخمة في العواصم الأوروبية والأمريكية تندّد بالاحتلال وتدين الصمت الدولي.
في المقابل، برز انقسام داخلي إسرائيلي غير مسبوق، بين من يرى استمرار الحرب ضرورة «وجودية»، ومن يعتبرها حربا عبثية تستنزف البلاد وتفقدها شرعيتها الأخلاقية والسياسية.
عامان من الفشل العسكري والسياسي
رغم الدمار الهائل، لم تستطع إسرائيل القضاء على «حماس» ولا السيطرة الكاملة على غزة. عمليات المقاومة استمرت، والأنفاق بقيت جزءا من المشهد.
الجيش الإسرائيلي وجد نفسه عالقا في حرب استنزاف طويلة، تراجعت فيها معنويات جنوده، وتصدّعت جبهته الداخلية بسبب الخسائر البشرية والأسرى الذين لم يستعادوا بعد.
في المقابل، دفعت غزة ثمنا كثيرا، أكثر من نصف سكانها بلا مأوى، واقتصادها في الانهيار، ومؤسساتها المدنية مشلولة. ورغم ذلك، خرجت المقاومة من الحرب بقدرة صمود غير متوقعة، وبتأييد شعبي عربي واسع أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي.
صفقة ترامب.. نهاية الحرب أم إعادة تدويرها؟
في خريف 2025، طرحت الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب ما سمّته «الصفقة الكبرى لإنهاء الحرب في غزة»، والتي تقوم على وقف دائم لإطلاق النار، ونزع سلاح الفصائل مقابل ضمانات أمنية لإسرائيل، وإقامة سلطة فلسطينية موحدة في غزة والضفة تحت إشراف دولي، مع تمويل إعادة الإعمار من دول الخليج.
لكن هذه الصفقة، التي تلقى دعما إسرائيليا مشروطا، قوبلت برفض فصائلي وشعبي واسع في فلسطين، لأنها تتجاهل جذور الأزمة وهي الاحتلال، والحصار، وحق تقرير المصير.
ويرى محللون أن الصفقة ليست سوى نسخة منقّحة لـ«صفقة القرن» التي طرحها ترامب عام 2020، وأنها تهدف بالأساس إلى إنقاذ صورة إسرائيل وإعادة دمجها في المنطقة عبر مسار «تطبيعي اقتصادي» جديد، لا إلى تحقيق سلام عادل.
العالم بعد 7 أكتوبر.. سقوط الأقنعة
الحرب لم تغيّر غزة فقط، بل غيّرت صورة العالم. حيث انكشفت ازدواجية المعايير الغربية، وسقطت الخطابات الأخلاقية التي كانت تتحدّث عن «حقوق الإنسان» و«النظام الدولي القائم على القيم».
في المقابل، برز محور دولي جديد – من الصين وروسيا إلى دول الجنوب العالمي – يدعو إلى نظام عالمي أكثر توازنا، وإلى إنهاء الهيمنة الأمريكية على قرارات الحرب والسلم.
هكذا تحوّلت غزة إلى رمز عالمي للمقاومة، وإلى مرآة لخلل في ضمير الإنسانية.
بين الرماد والأمل
اليوم نحيي عامان على 7 أكتوبر، وغزة ما زالت تنزف. لكن بين الركام، لا يزال الفلسطينيون يتمسّكون بحقّهم في الحياة، والحرية، والكرامة. الصفقات قد توقف الحرب، لكنها لا ولن توقف الذاكرة، ولا تطفئ جذوة العدالة المؤجلة.
وإذا كانت إسرائيل قد انتصرت في تدمير الحجر، فإنّ غزة – برغم كل شيء – انتصرت في معركة الوعي والرمز، وأعادت القضية الفلسطينية إلى قلب العالم من جديد.