
أ. حامد بن إبراهيم/ استشاري في العلاقات الدولية
***
أقر ميثاق الأمم المتحدة، الذّي صدر بمدينة سان فرانسيسكو في 26 جوان 1945، في الفقرة الثانية من المادّة الأولى: “…احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها“، وأُدرجت نفس الفقرة في المادة 55 من الميثاق. وتم التأكيد على هذا “الحقّ” لاحقًا في إعلانات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، مثل إعلان منح الاستقلال للبلدان والشّعوب المستعمرة لعام 1960.
وباستحضار السّياق التّاريخي لتأسيس منظّمة الأمم المتّحدة نستذكر من جهة، التّوافق الموضوعي لواشنطن مع الاتّحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي حول هذا المبدأ؛ ومن جهة أخرى يمكن تصوّر عدم تَحمُّس فرنسا وبريطانيا لهذا التّوجه، لأنّ تقرير المصير يساوي بالنّسبة لهما آنذاك، الخروج من المستعمرات وتوديع زمن التّمُّدد الامبراطوري. وفي المقابل، يمكن افتراض اندفاع الولايات المتّحدة لإدراج الفقرات المشار اليها، لأنّها المستفيدة من تراجع قّوة بريطانيا وفرنسا، خاصّة في الشّرق الأوسط. فضلا عن التّخطيط الذي كان جاريا، من قبل مجموعات الضّغط المرتبطة بالدّوائر الصّهيونية لتأسيس دولة إسرائيل، والاستفادة من الإطار القانوني الدّولي الجديد ومبدأ “تقرير المصير”. وقد اعتُمد مبدأ، “تقرير المصير” في انسجام مع ” روح النّص”، كما كان الحال بالنّسبة لاستقلال الجزائر وموريتانيا والكثير من الدّول الافريقية.
استغلال ” تقرير المصير” لتقسيم دول الأعداء
بعد ان تحوّلت الولايات المتحدة انطلاقا من الخمسينات الى الوريث الفعلي لنفوذ بريطانيا، وتفرّدت بريادة العالم ابتداء من بداية التّسعينات، أصبح اعتماد المبدأ يخضع لازدواج المعايير بشكل صارخ. بل تحّول مبدأ “تقرير المصير” الى مبدأ “تقسيم دول الأعداء” او مبدأ “إضعاف غير المُتعاونين“. واستفاد الغرب المُوسَّع من أخطاءٍ قامت بها الأنظمة المُستهدفة. فَعجْزُ بعض الدّول عن تَبنّي سياسات جامعة، تضمن الحقوق على أساس المساواة في المواطنة، فَتح المجال لاستغلال معاناة بعض القوميّات او الطّوائف، لدفعها للمطالبة بالانفصال والاستقلال.
فعدم احترام خصوصيّات الأقليّة المسيحيّة بجنوب السودان، والتجاوزات التي رافقت اعتماد “الشريعة” في أواخر عهد الرئيس الأسبق جعفر النُّميري (1969-1985)، رمى إقليم الجنوب في أحضان بريطانيا والولايات المتحدة؛ وانتهى الامر الى تأسيس دولة السّودان الجنوبي. النّميري وجَّه تهمة الرِّدّة لمحمود محمد طه، زعيم «الحزب الجمهوري» آنذاك وأعدمه؛ ومن سوء حظ السّودان، تجاهل النظام طرح محمد طه الذي يُقدِّم العدل في تطبيق تعاليم الدين على كل المفاهيم الأخرى.
وفي دارفور، مثالٌ آخر على السياسات الخاطئة في السّودان؛ فالاستقواء على الأقليات بقبائل الجن جويد ذات الأصول العربية، انتهى باستغلال أطراف خارجيّة ضُعف سيطرة الدولة المركزية للتحريض على انفصال الإقليم الغني بالموارد وخاصّة الذّهب، والممتدّ على قرابة 494 ألف كلم مربع بما يقارب مساحة اسبانيا.
وكثيرة هي الامثلة التي تُظهر حرص الغرب على تقسيم الدّول، والاعتماد على مبدا “تقرير المصير”، عندما ينسجم ذلك مع مصالحه. وتجربة تيمور الشرقية فريدة في كشف تقلُّب المواقف الامريكية؛ ففي السبعينات وأمام الخوف من سيطرة الشيوعيين، تسامحت واشنطن مع سيطرة اندونيسيا على الإقليم، وفي نهاية التسعينات أصبح استقلال الإقليم يخدم مصالحها فدَعمته، وتحقق ذلك في 2002. ونفس السّياسة مُورست تجاه الصّحراء الغربية (البوليزاريو)، فلِسنوات كان موقف واشنطن منسجما مع التوجه الدّولي العام، المبني على حل النزاع في نطاق مسار أممي؛ أشرف عليه الرئيس الأمريكي السابق جيمس بيكر من 1997 الى 2004 بصفة مبعوث خاص. وبِتَغيُّر الحسابات، اعترف الرئيس ترامب في ولايته الأولى بِمغربِيّةِ الصحراء مقابل تطبيع قيادة المملكة مع إسرائيل. لكنّ المتابعة للشأن المغربي، تظهر انّ الشعب المغربي يُثبت باستمرار، من خلال تحرّكاته المناصرة للقضية الفلسطينية، انه لم يقُل كلمته الأخيرة في التّطبيع.
واما إقليم كردستان العراق، فأبْقَتهُ الولايات المتّحدة في “منزلةٍ بين المنزلتينِ”. وثمّة أقاليم أخرى ذات نزعةٍ انفصاليّة، تُستغَّل للابتزاز كما يجري مع دمشق بالسُّويداء ذات الأغلبية المُوحِّديّة (الدّرزية)، او بالشّمال الشّرقي حيث الهيمنة الكردية، وان لم يكونوا أغلبية. وقد تُستغلُّ بعض القضايا للمساومة، مثل مطالبة الاتّحاد الأوربي لصربيا بالاقرار بحق إقليم كوسوف في الاستقلال، كعربونٍ للتّقدّم في التفاوض حول الانضمام الى الاتحاد الأوروبي.
رفُض الغرب انفصال الأقليات التي تعيش في فضائه
في مقابل الحالات السّابقة، يرفُض الغرب انفصال الأقليات التي تعيش في فضائه؛ وتجربة إقليم كتالونيا بإسبانيا، واتهام زعيمها كارلوس بوتشدمون بالإرهاب، إثر تنظيم استفتاء الانفصال في أكتوبر 2017، خير مثال على النّفاق وغياب المصداقية في تطبيق مبادى القانون الدولي. وإقليم دونباس في اكرانيا نموذج صارخ في هذا السياق، لان الغرب الأطلسي لا يُعيرُ أي أهميّة لمعاناة الأقليّة الرّوسية، ولا يعنيه في شيء ما تعرضت له من معاملة سيّئة من قبل ألوية آزوف اليمينيّة؛ فضلا عن منعِ استعمال اللّغة الرّوسية بقانونٍ، وفرض فكِّ ارتباط كنائس الإقليم عن مرجعيّتها الدّينية في روسيا. وأما جمهورية قُبرص التّركية، فنموذج آخر على تجاهل المبدا المذكور؛ ولم تشفع عضوية تركيا في النّاتو لهذا الإقليم، كي يتمتّع بحريّة تقرير مصيره ونيل الاعتراف به كجمهورية مستقلّة.
تنزيل مبدا ” تقرير المصير” على الحالة الفلسطينية
إذا حاولنا تنزيل مبدأ احترام “…التّسوية في الحقوق بين الشّعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها” على فلسطين، وتحديدا على غزة في هذه المرحلة، فإن إثبات ازدواجيّة المعايير سهلٌ حتى بالنسبة لغير المختصّين في القانون الدولي. ويكفي التّمعُّن سريعا في خُطّة ترامب للسلام في غزة، لنفهم انها بالأحرى خطّة “الوصاية الاستعماريّة الاستثماريّة”، وشاهدٌ اضافي على عدم الجدّية في الوقوف ضدّ الاستعمار ونظام التمييز العنصري في إسرائيل، وبرهان على الاستخفاف بتضحيات الشّعوب من أجل التحّرر والانعتاق.
وبما ان الحقّ الذي وراءه طالب لا يضيع ولا يسقط بالتّقادم، سيبقى مخطّطُ ترامب “للسّلام” كغيره من المناورات السّابقة، محاولة فاشلة للقفز على حقائق الميدان وقوانين التّاريخ. فالوضع في فلسطين التّاريخية وتعقيداتُه، لا يمكن أن نتعامل معه إلا كمساٍر تراكمي يتّجه نحو استعصاء بُنيوي ديمغرافي وسياسي وجغرافي؛ سينتهي بدمج “إسرائيل الدّولة القائمة” و “فلسطين الدّولة السّاعية للقيام”، في كيان موحّد مستلهمٍ من تجربة جنوب افريقيا. وربّما، سيكون حينها مبدأ تقرير المصير بيد الأفراد، الذين سيختارون، كلٌّ حسب أصله وموقِعه وما “قدّمت يداه”، بين البقاء او الذّهاب او العودة.
وختاما حقَّ القول، انّه من عبثيّة الأقدار، تُلوِّنُ واشنطن تطبيق مبدا ” تقرير المصير” حسب مصالحها دون مراعاة للقانون الدّولي، وفي المقابل تعجز لعقودٍ بعد تأسيس الأمم المتحدة، عن ضمان حريّة تقرير مصير “مواطنيها” ذوي الأصول الافريقية، دون الحديث عن الهنود الحمر، أصحاب البلاد الأصليين. فلا الدّستور وتعديلاته ولا القوانين التّي تَلته، ولا انتصار الشّمال على الجنوب في الحرب الاهلية، كان كفيلا بإنهاء ممارسات التّمييز العنصري وضمان حق تقرير المصير للفئات المظلومة في أمريكا؛ وكانت حياة مارتن لوثر ومالكوم اكس من الاثمان الغالية التي دُفعت لتحسين الأوضاع نسبيّا.