في تقرير جديد للاتحاد من اجل المتوسط التكامل الإقليمي والترابط الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة بين التعثر والرهانات الكبرى

برشلونة- كتب سفيان رجب
بمناسبة مرور ثلاثين عاما على إطلاق عملية برشلونة، أصدر الاتحاد من أجل المتوسط نسخته الثانية من تقرير التكامل الإقليمي 2025، بالشراكة مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وبدعم من الوكالة الألمانية للتعاون الدولي. التقرير يقدّم تقييمًا معمقا لوضع الترابط الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة الأورومتوسطية، ويقترح توصيات سياسية-اقتصادية-اجتماعية لتعزيز التعاون كرافعة للنمو المستدام.
ورغم مرور ثلاثة عقود على محاولة بناء فضاء مشترك بين ضفتي المتوسط، يكشف التقرير أن المنطقة ما زالت بعيدة عن تحقيق إمكاناتها، إذ تعيقها الأزمات الجيوسياسية، والفجوات الاقتصادية، وضعف الاندماج المؤسسي. غير أن التقرير يرصد في المقابل فرصا جديدة يمكن أن تجعل من المتوسط قطبا اقتصاديا أكثر تكاملا إذا ما تم استثمارها بحكمة.
أزمات متلاحقة وفرص ناشئة
منذ صدور النسخة الأولى من التقرير عام 2021، عصفت بالمنطقة صدمات متتالية: الحرب في أوكرانيا التي عطّلت سلاسل التوريد وأثرت على أسعار الغذاء والطاقة، والصراعات في الشرق الأوسط التي قوّضت جاذبية الاستثمار. إلى جانب ذلك، أثرت الكوارث المناخية والطبيعية – من فيضانات وزلازل – على استقرار البنى التحتية وزادت من نزوح السكان.
ومع ذلك، يشير التقرير إلى تطورات إيجابية، مثل تعزيز الشراكات الاقتصادية مع دول الخليج، واتساع نطاق التعاون مع إفريقيا جنوب الصحراء، إضافة إلى ما يتيحه الانتقال الأخضر والرقمنة من فرص للنمو والابتكار.
التجارة: العمود الفقري للتكامل
تظل التجارة البينية حجر الأساس للتكامل، وقد شهدت نموا متباينا. فمن جهة، ارتفعت صادرات الصناعات ذات القيمة المضافة العالية كالآلات والكيماويات، ومن جهة أخرى تراجعت قطاعات تقليدية كالنسيج.
ففي عام 2022، بلغت قيمة صادرات المنطقة الأورومتوسطية نحو 7.2 تريليون دولار، أي ثلث التجارة العالمية. ورغم تضاعف القيمة ثلاث مرات منذ 1996، فإن الحصة من السوق العالمية تراجعت مقارنة بذروة مطلع الألفية.
كما ان الاتحاد الأوروبي ما زال الشريك المهيمن بنسبة 94% من المبادلات الداخلية، لكن الصين عززت موقعها لتبلغ حصتها 9.2% من الواردات. أما دول الخليج، فهي تمثل شريكا حيويا في مجال الطاقة، فيما نمت المبادلات مع إفريقيا جنوب الصحراء إلى نحو 82 مليار دولار من الصادرات و75 مليارا من الواردات عام 2023.
لكن التحديات ما زالت كبيرة منها العقبات غير الجمركية كالمعايير البيئية واللوائح التقنية تزيد كلفة الامتثال، في حين أن سياسات مثل آلية الكربون الأوروبية تهدد تنافسية منتجات الجنوب.
وبالتالي لا بد من تحديث الاتفاقيات التجارية لتشمل الخدمات والتجارة الرقمية، دعم سلاسل القيمة الإقليمية، والانتقال نحو صناعات أكثر تقدمًا.
التمويل: فجوة هيكلية وتفاوتات صارخة
وبالنظر الى المشهد المالي في المنطقة، نلاحظ أنه يتسم بالتجزئة وهيمنة التمويل المصرفي. ففي دول مثل مصر والجزائر وألبانيا، لا يتجاوز الائتمان الموجه للقطاع الخاص 30% من الناتج المحلي، مقابل 80% في الاتحاد الأوروبي.
اما الاستثمار الأجنبي المباشر فقد حافظ على مرونته، لكن مع تفاوتات كبيرة: 6.1% من الناتج المحلي في غرب البلقان مقابل 2.9% في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط. اما دول الخليج ، فقد برزت كممول أساسي من ذلك 11 مليار دولار استثمارات في المغرب عام 2023، و2.2 مليار في الجزائر، ومليار في تونس.
أما التحويلات المالية، فقد أصبحت شريانا حيويا للاقتصادات حيث نجد 35% من الناتج المحلي في لبنان، و20% في فلسطين، وأكثر من 10 مليارات دولار في مصر والمغرب على مدى السنوات الأخيرة.
وهنا لا بد من التوصية بتطوير أسواق المال غير المصرفية، تخفيف القيود على الاستثمار الأجنبي، وتوسيع الشمول المالي، خاصة للنساء في دول الجنوب حيث أقل من نصف السكان يمتلكون حسابا مصرفيا.
البنية التحتية: عقدة التكامل
ان ضعف البنية التحتية في جنوب المتوسط يمثل عقبة رئيسية أمام الاندماج. فالاعتماد المفرط على الطرق البرية يرفع كلفة النقل ويزيد الانبعاثات، في حين أن الاستثمار في السكك الحديدية والموانئ قادر على خلق سلاسل إمداد إقليمية أكثر استدامة.
وفي مجال الطاقة، تمتلك المنطقة إمكانات ضخمة لتوليد الطاقات المتجددة، لكن الارتفاع الكبير في الطلب المحلي على الكهرباء يحد من قدرتها على التصدير نحو أوروبا.
والرقمنة بدورها تمثل تحديا، إذ تظل نسب النفاذ إلى الإنترنت عريض النطاق ضعيفة في دول شمال إفريقيا مقارنة بالاتحاد الأوروبي وغرب البلقان، رغم مشاريع مثل الكابل البحري “ميدوسا”. والتوصيات هنا تتمثل في تعزيز التخطيط العابر للحدود، دعم استثمارات الطاقة المتجددة وربطها بالشبكات الإقليمية، وتحسين البنية الرقمية في الجنوب.
تنقل الأفراد: بين الحاجة الأوروبية وهواجس الجنوب
وتبقى الهجرة ظاهرة مركزية في المتوسط. يعيش ربع سكان غرب البلقان خارج أوطانهم، بينما تعاني دول الجنوب من نزيف الكفاءات. في المقابل، تحتاج أوروبا إلى اليد العاملة بسبب شيخوخة سكانها.
ففي عام 2024، بلغ عدد المهاجرين داخل المنطقة 34 مليونا، فيما وصل إلى أوروبا أكثر من 274 ألف مهاجر غير نظامي في 2023، في أعلى مستوى منذ 2016.
كما زادت الأزمات المناخية والكوارث الطبيعية من النزوح الداخلي، بينما ظل قطاع السياحة- الذي يوظف 15% من اليد العاملة في المنطقة-رهينة الهشاشة الأمنية والسياسية.
و التوصيات الصادرة في هذا المجال تتمثل في إدارة أكثر فعالية لهجرة اليد العاملة عبر “شراكات المواهب”، تطوير مهارات المهاجرين بما يخدم بلدانهم الأصلية والمقصد، وتشجيع السياحة المستدامة.
التعليم والبحث العلمي: الحلقة الأضعف
ويبقى التعليم العالي والبحث العلمي يمثلان ركيزة أساسية للتكامل، لكنهما ما زالا متأخرين. فبينما تستثمر إسرائيل 6.35% من ناتجها المحلي في البحث والتطوير، لا تتجاوز النسبة 0.6% في معظم دول شمال إفريقيا.
وقد ساعدت برامج التعاون مثل “إيراسموس+” على تعزيز التنقل الأكاديمي، لكن الغالبية العظمى من الطلبة المتنقلين تتجه نحو دول الاتحاد الأوروبي، مما يعمق عدم التوازن.
ورغم مشاركة النساء في بعض برامج التبادل (63% عام 2022)، فإن الفجوة بين الجنسين في مجالات البحث العلمي ما زالت قائمة.
وفي هذا الاطار صدرت التوصيات بزيادة الإنفاق العام على التعليم العالي في دول الجنوب، توفير حوافز للتعاون الجامعي والبحثي، وتوسيع الاعتراف بالمؤهلات بين دول المنطقة.
بين التعثر والطموح
عموما يبرز تقرير التكامل الإقليمي 2025 صورة مزدوجة: من جهة، عوائق بنيوية وأزمات جيوسياسية تجعل المنطقة أقل تكاملا مما تسمح به إمكاناتها؛ ومن جهة أخرى، فرص استراتيجية كامنة في التجارة الرقمية، الطاقات المتجددة، وإدارة الهجرة المنظمة.
لكن نجاح هذه الرهانات يتطلب إرادة سياسية وتنسيقًا مؤسسيا يتجاوز حدود الاقتصاد الضيقة نحو مقاربة أكثر شمولية، تدمج البعد الاجتماعي، البيئي، والرقمي، وتستثمر في الإنسان باعتباره الثروة الأهم لضفتي المتوسط.