
مقيمة بجينيف تعيش مدينة ڨابس منذ أسابيع على وقع احتجاجات متصاعدة تندّد بتواصل التلوث الصناعي الذي أنهك سكان الجهة طيلة عقود، وأثر على صحتهم وبيئتهم ومعيشتهم. وهي احتجاجات مشروعة بكل المقاييس، إذ لا يمكن إنكار أن قابس أصبحت واحدة من أكثر المدن تضرّرًا بيئيًا في تونس، نتيجة ما يفرزه المجمّع الكيميائي من نفايات وغازات ملوّثة أدت إلى ارتفاع نسب الأمراض الصدرية والسرطانية في صفوف الأهالي، حسب تقارير محلية ومنظمات بيئية.
لكن، وبين غضب مشروع ووجع مزمن، تطفو على السطح أيضًا محاولات بعض الأطراف ركوب الموجة واستغلال الاحتقان لأغراض سياسية أو مصلحية ضيقة، فيسعون إلى تحويل المطالب الاجتماعية الصادقة إلى أدوات ضغط وابتزاز سياسي، أو إلى مساحات لتصفية الحسابات مع الدولة، في مشهد متكرر كلما اشتد الغضب الشعبي. الراكبون على الأحداث والمتاجرون بآلام الناس هؤلاء لا يقلون خطرا عن خطر التلوث نفسه، فهم يتغذّون من معاناة الناس ويحوّلون قضاياهم العادلة إلى منابر للتجييش والفوضى. يتحدثون باسم الأهالي دون أن يعيشوا مآسيهم، ويرفعون شعارات الغضب وهم يخفون خلفها حسابات سياسية ضيقة أو طموحات شخصية باهتة. يتوهم هؤلاء أن بإمكانهم إرباك الدولة أو جرّها إلى ردود فعل انفعالية، لكنهم يغفلون أن الدولة القوية تُختبر في قدرتها على إدارة الأزمات لا في التفاعل مع الضجيج، وأن الفوضى لا تخدم سوى من يريد بقاء الجهة رهينة المعاناة والتعطيل.
أرقام ودلالات
تشير التقديرات إلى أن المجمع الكيميائي بڨابس ينتج سنويًا أكثر من 6 ملايين طن من الفوسفوجيبس، وهي مادة ملوثة تُلقى مباشرة في البحر منذ عقود، مما أدى إلى تدهور النظام البيئي البحري واختفاء مساحات شاسعة من التنوع الحيوي. وفي المقابل، فإن مجمّعات كيميائية مشابهة في دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وهولندا تخضع لنظام صارم من المراقبة والصيانة والتجديد الدوري، وتستثمر ما بين 10% و15% من أرباحها السنوية في البحوث البيئية ومعايير السلامة. بينما في قابس، لا يتجاوز الإنفاق على حماية البيئة 1% من المداخيل، وهو رقم يختزل حجم الفجوة بين صناعة تبحث عن الربح السريع ونظم صناعية متقدمة تراهن على الاستدامة والمسؤولية.
بين التفهم والالتزام من الإنصاف
القول إن الدولة التونسية أبدت في السنوات الأخيرة تفهمًا واضحًا لمطالب الجهة، وأطلقت مشاريع لإزالة الفوسفوجيبس ونقل الوحدات الملوثة خارج المدينة، غير أن التنفيذ ظلّ بطيئًا ومتعثّرًا بسبب الصعوبات المالية وتعقيدات الملف التقني. لكن ذلك لا يبرر استغلال الوضع من قبل من يسعون إلى إرباك الدولة أو تصويرها كخصم للجهة، في حين أن الحلول البيئية تتطلب استمرارية ومقاربة علمية طويلة المدى، لا شعارات ظرفية ولا تصعيدًا ميدانيًا غير محسوب.
رؤية الدولة ومسؤولية القيادة
من المهم التذكير بأن الرئيس قيس سعيّد كان الوحيد من بين من سبقه الذي اعترف صراحة بالمشكل البيئي في ڨابس واعتبره قضية وطنية عاجلة، حيث بادر، صحبة الحكومة، إلى إطلاق مسار فعلي لمعالجة الملف ووضع خطط عملية لنقل الوحدات الملوّثة وإعادة تأهيل المنطقة الصناعية. ومع تسارع نسق تنفيذ هذه الإجراءات، يبدو أن حلّ هذا الملف الشائك بات قريبًا، بما يسمح لأهالي ڨابس بأن يتنفسوا هواءً نقيًا طال انتظاره. ولا عزاء للخونة والناعقين الذين يتوهمون أن الفوضى طريق إلى المجد أو أن تشويه الدولة يعوّض عن ضعفهم السياسي، فالدولة ماضية في الإصلاح بثبات ووعي، رغم كل التشويش.
ڨابس تستحق العدالة البيئية ڨابس ليست قضية محلية، بل ملف وطني بامتياز، لأن ما يحدث فيها يختبر مدى قدرة الدولة على التوفيق بين التنمية الصناعية والحق في بيئة سليمة.
وإذا كانت مدن أوروبية قد نجحت في جعل الصناعة الكيميائية جزءًا من اقتصاد أخضر متجدد، فليس مستحيلاً أن تستعيد قابس عافيتها، شرط أن تتضافر الجهود بين السلطة والمجتمع المدني والعلماء، بعيدًا عن الأصوات التي تتغذى من الأزمات وتصيد في الماء العكر.