
تونس-لوبوان-كتب سفيان رجب
لم تعد مصر اليوم كما كانت قبل عقد من الزمن. فقد شهدت الفترة الحالية وبالتحديد منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي الى الحكم نهضة وتحول سياسي واقتصادي بارز حيث دخلت البلاد مرحلة جديدة من تاريخها الحديث، تقوم على رؤية شاملة لبناء دولة قوية، مستقلة اقتصاديا، وفاعلة سياسيا في محيطها الإقليمي والدولي.
ورغم ما واجهته القاهرة من أزمات اقليمية متشابكة، أثبتت التجربة المصرية أن الإصلاح العميق والقيادة الحازمة يمكن أن يحولا الانهيار المحتمل إلى انطلاقة تنموية واعدة.
عقد التحديات الكبرى
من جائحة كورونا التي شلت الاقتصاد العالمي، إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي أربكت أسواق الطاقة والغذاء، ثم توترات الشرق الأوسط بعد الحرب على غزة، وارتفاع أسعار الفائدة عالميا… عاشت مصر في بيئة اقتصادية دولية لا تقل تعقيدا عن أي فترة في تاريخها الحديث.
ومع ذلك، ظلت القاهرة متمسكة بخطتها للإصلاح الاقتصادي، مفضلةً المواجهة على التراجع، والعمل على تحويل الصعوبات إلى فرص.
فقد تراجعت إيرادات قناة السويس بنسبة قاربت 50% نتيجة الاضطرابات في البحر الأحمر، وتعرضت الموازنة العامة لضغوط تجاوزت 130 مليار جنيه خلال عام واحد. لكنّ الدولة اختارت الاستمرار في مشاريعها القومية العملاقة، معتبرة أن التنمية الشاملة هي الطريق الوحيد لضمان الأمن والاستقرار.
رؤية السيسي: دولة قوية واقتصاد متنوع
وفي خضم هذا الوضع، اختار السيسي الاعتماد منذ البداية على مبدأين أساسيين: إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحرير الاقتصاد من القيود القديمة. فمنذ عام 2016 أطلقت الحكومة إصلاحات هيكلية غير مسبوقة، بدأت بتعويم العملة وتحرير سعر الصرف، مرورا بإعادة هيكلة الدعم وتوسيع دور القطاع الخاص، وصولا إلى سياسة استثمارية طموحة تهدف إلى تحويل مصر إلى مركز صناعي ولوجستي عالمي.
هذه السياسة لم تكن نظرية، بل تجسدت في أرقام ملموسة: أكثر من 134 إجراء إصلاحي تم تنفيذها خلال عامين فقط، و40 مليار دولار صادرات في 2024، و49.5 مليار دولار احتياطي نقدي بحلول سبتمبر 2025، بزيادة تفوق 14 مليار دولار مقارنة بعامين سابقين.
ولم تكن هذه النتائج ممكنة لولا تماسك الدولة ومتانة مؤسساتها وقدرتها على التحرك السريع في لحظات الأزمات.
الاقتصاد المصري بين الشرق والغرب
وأمام ادراك السلطات المصرية أن الاقتصاد العالمي يتغير بسرعة، وأن زمن التبعية لمحور واحد قد انتهى، جاءت سياستها الخارجية الجديدة التي تقوم على تنويع الشركاء وتوسيع دوائر التعاون.
فانضمام مصر إلى تجمع “بريكس” في مطلع 2024 لم يكن خطوة رمزية، بل تحولا استراتيجيا نحو اقتصاد متعدد الأقطاب، يمنح القاهرة موقعا متقدما في إفريقيا والعالم النامي.
في الوقت ذاته، حافظت مصر على علاقات متينة مع الاتحاد الأوروبي، الذي ضخّ حزمة تمويلية تجاوزت 11.5 مليار يورو لدعم الإصلاحات والتحول الأخضر، في اعتراف أوروبي واضح بدورها كمحور استقرار في جنوب المتوسط.
وعلى الجانب الآسيوي، تعمقت الشراكات مع الصين وروسيا والهند، سواء في مشروعات الطاقة النووية مثل مفاعل الضبعة، أو في البنية التحتية والنقل الذكي، ما جعل مصر جزءا من خريطة التنمية العالمية الجديدة التي تربط آسيا بإفريقيا عبر قناة السويس وشبكات النقل الإقليمية.
من التقشف إلى الإنتاج
لم يكن الإصلاح المالي هدفًا في حد ذاته، بل خطوة نحو بناء اقتصاد إنتاجي تنافسي.
فالحكومة المصرية لم تكتف بضبط الموازنة وترشيد الدعم، بل أطلقت برنامجا ضخما لتوطين الصناعة الوطنية، شمل حوافز ضريبية واستثمارية غير مسبوقة، منها إعفاءات للمشروعات الاستراتيجية واسترداد نصف قيمة الأرض للمستثمرين المنجزين ضمن الآجال المحددة.
كما تم تخصيص أكثر من 47 مليار جنيه لدعم القطاع الصناعي، إلى جانب مبادرات التمويل الميسر للمشروعات الصغيرة والمتوسطة بفوائد لا تتجاوز 2% .هذه الإجراءات ساهمت في تحريك عجلة الإنتاج، وزيادة الصادرات، وخلق فرص عمل جديدة، لتتحول مصر تدريجيا من اقتصاد مستورد إلى اقتصاد يعتمد على الإنتاج والتصنيع المحلي.
التحول الأخضر: مصر نموذجًا إقليميا
أدركت القيادة المصرية أن التنمية المستدامة لم تعد ترفا، بل ضرورة استراتيجية. لذلك، تم تخصيص أكثر من 637 مليار جنيه في خطة 2025/2026 لمشروعات الطاقة المتجددة والتحول الرقمي، وهو ما يمثل أكثر من نصف الاستثمارات العامة في تلك السنة.
بهذا التوجه، تحولت مصر إلى دولة رائدة في الاقتصاد الأخضر على مستوى إفريقيا، تجمع بين التصنيع والإنتاج النظيف، وتربط بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة.
كما تستعد القاهرة لاستضافة قمم جديدة للطاقة المتجددة، في امتداد لما تحقق خلال قمة المناخ “COP27” التي أكدت قدرة الدولة المصرية على إدارة ملفات عالمية معقدة.
مصر تعود إلى موقعها الطبيعي في الإقليم
التحولات الاقتصادية لم تكن بمعزل عن الدور السياسي المتنامي لمصر في محيطها. فالقاهرة اليوم تمارس سياسة خارجية متوازنة تجمع بين القوة الدبلوماسية والمرونة الواقعية، وهو ما جعلها الوسيط الأهم في أزمات المنطقة.
من غزة إلى السودان مرورا بليبيا، ظلّ الدور المصري حاضرا وفاعلا، معتمدا على نفوذ سياسي تراكمي يمتد لقرن من الزمان.
وقد شكلت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى شرم الشيخ لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بحضور مصري فاعل، اعترافا أمريكيا وأوروبيا متجددا بأن استقرار الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق دون مصر التي فعلت كل شيء من اجل تخفيف الحصار على أبناء غزة رغم الانتقادات الموجهة اليها من بعض الشعوب العربية والذين كانوا ربما يطالبون مصر بدخول في حرب عسكرية مع اسرائيل.
هذا الدور السياسي ترافق مع حضور اقتصادي متنامٍ، إذ تحولت القاهرة إلى مركز جذب للاستثمارات الخليجية والأوروبية، مستفيدة من موقعها الجغرافي وبيئتها التشريعية الجديدة، ومن كونها جسر الربط بين إفريقيا والبحر المتوسط وآسيا.
الثقة الدولية والانتعاش المنتظر
انعكست الإصلاحات على ثقة المؤسسات الدولية في الاقتصاد المصري.
فقد رفعت وكالات التصنيف الائتماني مثل موديز وفيتش وستاندرد آند بورز تقييمها لمصر إلى B- مع نظرة مستقبلية مستقرة، ما يؤكد قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها وتوفير بيئة استثمار آمنة.
أما صندوق النقد الدولي فيتوقع أن يصل معدل النمو إلى 4.5% في 2025 مقابل 2.7% في 2024، مدفوعا بعودة النشاط الصناعي والاستثمارات الكبرى مثل مشروع رأس الحكمة الذي تتجاوز قيمته 150 مليار دولار، إلى جانب توسع الصادرات الزراعية والغذائية.
البعد الاجتماعي في قلب التنمية
ورغم الإجراءات الاقتصادية الصارمة، لم تغفل الدولة عن البعد الاجتماعي. فبرنامج حياة كريمة يعدّ أضخم مشروع تنموي في تاريخ مصر الحديث، يهدف إلى تحسين مستوى المعيشة في آلاف القرى والمناطق الريفية. كما تواصل الحكومة دعم الإسكان الاجتماعي، وتمكين المرأة والشباب، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية للفئات الهشة.
بهذه الرؤية المتكاملة، تمكنت مصر من الحفاظ على التوازن بين مقتضيات الإصلاح المالي ومتطلبات العدالة الاجتماعية، في نموذج نادر يجمع بين الانضباط الاقتصادي والالتزام الإنساني.
مصر نحو عقد جديد من الثقة والازدهار
مع قرب نهاية عام 2025 وانتظار السنة الجديدة 2026، تبدو ملامح مصر مختلفة تماما عما كانت عليه قبل عقد. فالدولة التي واجهت موجات تضخم وضغوطا خارجية هائلة، استطاعت أن تعيد بناء مؤسساتها، وتستعيد ثقة شركائها، وتؤسس لاقتصاد متنوع ومستدام.
لم تعد القاهرة مجرد عاصمة إقليمية، بل مركزا مؤثرا في القرارات الاقتصادية والسياسية للمنطقة.
وبينما تستعد البلاد لتنفيذ المرحلة الثانية من “رؤية مصر 2030″، يتجدد الأمل في أن العقد القادم سيكون عقد النمو والتمكين، حيث تتحول مصر من دولة تواجه التحديات إلى دولة تصنع الفرص.
ففي زمن الاضطراب العالمي، تبدو مصر اليوم نموذجا في الاستقرار، والعقلانية، والإرادة السياسية القادرة على إعادة رسم ملامح المستقبل.





