الشرق الأوسط

متى تخرج إيران من دائرة “الصبر الاستراتيجي”؟

لوبوان تي ان :

 

عملية الاغتيال الإجرامي الذي قام به كيان العدوان الصهيوني يوم الجمعة الماضي وأسفر عن استشهاد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية شكل أكبر ضربة وجهها العدو الصهيوني ضد أبرز حلفاء إيران في المنطقة منذ تدمير مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق في شهر أفريل الماضي وراح ضحيتها عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني وتعهد وقتها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بمعاقبة العدو الصهيوني، تلا ذلك هجوم كبير ولكنه متوقع ولم يتحول إلى حرب شاملة.

بعد ثلاثة أشهر، اغتال العدو الصهيوني أبرز قادة حزب الله العسكريين وهو فؤاد شكر في بيروت وتلاه في غضون ساعات أغتيال الشهيد اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في ظهران البعض. ورفعت لهجة التهديدات الحادة من طهران وحزب الله سقف التوقعات باندلاع حرب إقليمية واسعة لكن شيئا من ذلك لم يحدث. ومن غير المرجح أن يؤدي اغتيال السيد نصر الله إلى حرب مباشرة مع الجمهورية الإسلامية.

ونقلت وكالة بلومبيرغ عن مسؤولين حاليين وسابقين في الولايات المتحدة وخبراء في المنطقة اعتقادهم بأن إيران بدلا من ذلك ستركز على المساهمة في إعادة بناء حزب الله وتعزيز قدراته إلى جانب الحفاظ على شبكة  حلفائها من قوى المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق نشطة لأطول فترة ممكنة.

ونقلت بلومبيرغ عن دينا إسفنديار، كبيرة المستشارين لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية قولها أن ” إيران ستكون مضطرة للرد، مع تزايد عدد المطالبين بالانتقام”. لكن هذه الإدارة (الحكومة الإيرانية) لا تريد أن تتورط في صراع لا تستطيع الفوز فيه. لذلك سيتعين عليهم قياس ردهم.”

البيت الأبيض سعى من خلال تصريحات الناطقين باسمه إلى النأي بنفسه عن اغتيال الشهيد السيد نصر الله، لكن ذلك اتسم بالسخف منذ البداية، إذ سرعان ما تناقضت. فقد بث العدو الصهيوني بسرعة لقطات للطائرات الإسرائيلية وهي تقلع مع القنابل تحت أجنحتها، مما أرسل إشارة واضحة ومتعمدة أن هذه المجزرة كانت “صنع في الولايات المتحدة”.

سارع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تأييد اغتيال السيد نصر الله علنًا، معلناً: “موته نتيجة ضربة جوية إسرائيلية هو تحقيق للعدالة لضحاياه العديدين.” وأضاف بايدن: “الولايات المتحدة تدعم بالكامل حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حزب الله وحماس والحوثيين وأي جماعات إرهابية أخرى مدعومة من إيران.” وقال أيضًا إنه “وجهت وزير دفاعي لتعزيز وضع الدفاع للقوات العسكرية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لردع العدوان وتقليل خطر اندلاع حرب إقليمية أوسع.”

الادعاءات المتكررة من حكومة بايدن بأنها تسعى إلى “وقف إطلاق النار”، “التهدئة” و “حل سلمي” للصراع العربي الصهيوني ليست سوى معلومات مضللة حربية، تهدف إلى تسهيل الهدف الحقيقي للبيت الأبيض وهو إشعال حرب إقليمية تستهدف إيران. وبالطبع فإن حكومة نتنياهو، الممولة والمسلحة من الولايات المتحدة، ليست جهة فاعلة مستقلة بل تعمل كوكيل لأميركا.

الأهم من ذلك، أمر نتنياهو باغتيال الشهيد السيد نصر الله من مدينة نيويورك، في اليوم الذي ألقى فيه خطابًا تحريضيًا على الحرب في الجمعية العامة للأمم المتحدة يهدد فيه بالحرب مع إيران. وقال متوعداً: “لا يوجد مكان في إيران لا يمكن أن تصل إليه اليد الطويلة لإسرائيل. وهذا ينطبق على جميع أنحاء الشرق الأوسط.”
في خطابه أمام الأمم المتحدة، شرح نتنياهو بشكل صريح دور إبادة غزة وحملة الاغتيالات الإسرائيلية في لبنان كجزء من حملة تقودها الولايات المتحدة لإعادة تنظيم المنطقة.

أشار نتنياهو بشكل مركزي إلى خريطة عرضها قبل عام في الأمم المتحدة في 22 سبتمبر 2023، أي قبل ثلاثة أسابيع من طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. كانت الخريطة تظهر كيان العدوان الصهيوني وهي تضم جميع الأراضي الفلسطينية، كجزء من إطار جيوسياسي مع الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة مثل مصر والسودان والأردن والسعودية، في نوع من الإمبراطورية الإسرائيلية.  وقال نتنياهو: “هذه هي الخريطة التي عرضتها هنا العام الماضي. إنها خريطة بركة. تُظهر إسرائيل وشركاءها العرب يشكلون جسرًا بريًا يربط بين آسيا وأوروبا.”

الشرق الأوسط “الجديد” الذي أعلن عنه بواسطة نتنياهو هو جزء حاسم من حملة الحرب العالمية للإمبريالية الأميركية، بما في ذلك الحرب ضد روسيا في أوكرانيا والتعزيز العسكري الأميركي في المحيط الهادئ الذي يستهدف الصين.

اغتيال السيد نصر الله حدث بينما كانت الولايات المتحدة على وشك الموافقة على ضربات بأسلحة الناتو في عمق روسيا، رغم تهديدات روسيا بالرد باستخدام الأسلحة النووية. في جميع أنحاء العالم، الإمبريالية الأميركية تتعمد تجاوز كل “الخطوط الحمراء” التي كانت سابقًا تحد من سلوكها في الحروب العالمية.
إعلان الطيار الإسرائيلي الذي شارك في اغتيال الشهيد نصر الله، “سنصل إلى الجميع، في كل مكان”، هو في الواقع الشعار الفعلي للإمبريالية الأمريكية وهي تسعى لإعادة استعمار العالم بالقوة. كل جريمة حرب—الإرهاب، الاغتيالات وحتى الإبادة الجماعية—تتحول إلى أمور معتادة.

كانت هناك إشارات مبكرة من مسؤولين بأن الجمهورية الإسلامية ستمارس نفس ضبط النفس الذي أظهرته بعد استفزازات العدو الصهيوني الأخيرة. وليس أقلها لأن كيان العدوان الصهيوني متفوق عسكرياً والولايات المتحدة نقلت المزيد من القوات إلى المنطقة لردع أي هجوم كبير على حليفها الصهيوني الذي يمثل أداتها الضاربة في المنطقة. وقال محمد جواد ظريف، أحد كبار مساعدي الرئيس الإيراني مسعود پزشكيان ووزير الخارجية السابق، للتلفزيون الرسمي يوم الأحد: “سنرد في الوقت المناسب وباختيارنا الخاص.”

وفي الوقت نفسه، أكد خامنئي في أول تصريح له قبل يوم على أن حزب الله لديه ما يكفي من الأفراد الذين يمكنهم تعويض نصر الله وأن “محور المقاومة سيقرر مصير المنطقة.”

الخطاب الصادر من طهران يعكس رغبة المؤسسة الدينية والعسكرية في إبقاء الحرب بعيدة عن متناولها. في المدى القريب، ستكون المهمة هي استعادة قوة منظمات وقوى المقاومة التي تدعمها في المنطقة وضمان عدم الانجرار إلى حرب شاملة.

وقال والي نصر، المستشار السابق لوزارة الخارجية الأميركية وأستاذ دراسات الشرق الأوسطي في جامعة جونز هوبكنز الأميركية إن الأولوية لإيران في لبنان هي الحفاظ على حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة والعديد من حلفاء إيران في المنطقة. وأوضح نصر أن “الأولوية بالنسبة لإيران هي الردع—فهي لا تريد حربًا أكبر في الوقت الحالي وتشتبه في أن إسرائيل تسعى إلى واحدة.” وقال “الأمر لا يتعلق بالانتقام لنصر الله، بل بإعادة بناء موقفهم.”

ويسود اعتقاد في الولايات المتحدة أنه لا يمكن إخفاء أن وضع إيران يتسم بالضعف مؤخرًا. وسط سلسلة من الهجمات الكبرى التي تستهدف حلفاء إيران وشخصياتها، فقد توفي الرئيس السابق إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة هليكوبتر، الذي كان ينظر إليه بوصفه الخليفة المرجح لمرشد الجمهورية السيد خامنئي الذي يعتبر القوة الرئيسية الداعمة لمحور المقاومة في مواجهة ما يسمى التيار الإصلاحي الداعي إلى مهادنة الولايات المتحدة والتخفف من أعباء دعم محور المقاومة. وقد أسفرت وفاة رئيسي عن انتخابات أدت إلى انتخاب الزعيم الإصلاحي پزشكيان في يوليو الماضي. ومع ذلك، يعود الضعف إلى فترة أبعد.

ويذكر أن نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني لشؤون العمليات قد استشهد أيضا في عملية اغتيال السيد نصر الله حيث كان مجتمعا معه يوم الجمعة الماضي. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع عدد اغتيالات كبار ضباط الحرس الثوري إلى ما لا يقل عن اثني عشر منذ 7 أكتوبر الماضي.

استشهاد أمين عام حزب الله يذكّر باغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني، أبرز جنرال إيراني وبطل قومي، في أوائل عام 2020 خلال رئاسة دونالد ترامب، الذي كان متشدداً تجاه إيران والذي يلقى (ترامب) تأييد نتنياهو لعودته إلى البيت الأبيض.

وذكر موقع بلومبيرغ أنه سيتم استخدام سوريا والعراق كقنوات رئيسية لنقل موارد الدعم الإيراني لحزب الله، وفقاً لمصدر مطلع على التحركات العسكرية في شمال شرق سوريا والمجموعات المحسوبة على إيران التي تعمل في كلا البلدين. وأن إيران ستحاول نقل آلاف المقاتلين إلى المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، في إطار سعي إيران لتعزيز قدراتها الرادعة.

وفي حين أن فقدان السيد نصر الله واستنزاف كبار قادة حزب الله يمثل خسارة كبيرة لكل من الحزب وإيران، فمن غير المرجح أن يدفع ذلك إلى تغيير أو إعادة التفكير في السياسة الخارجية والإقليمية لإيران. وحصل پزشكيان على دعم ضمني من خامنئي لمتابعة سياسة المشاركة الحذرة مع الغرب من أجل تأمين تخفيف العقوبات الاقتصادية. ومثل هذا النهج يتطلب ضمان عدم تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا أكثر رغم أن كيان العدوان الصهيوني يواصل الضغط العسكري على إيران.

في الواقع تكشف عمليات الاغتيال التي ينفذها كيان العدوان الصهيوني لقيادات وأعضاء حزب الله ، تكشف مرة أخرى عن حدود الجمهورية الإسلامية عندما يتعلق الأمر بالرد على كيان العدوان الصهيوني.
الهجوم الصاروخي الذي نفذته طهران في أبريل الماضي والذي جاء بعد نحو أسبوعين من قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، والذي ساهم في إحباطه القوات الأميركية في المنطقة، كان إلى حد الآن رد إيران الوحيد على كيان العدو، رغم أن جنرالاتها غالبًا ما يحذرون من “رد ساحق” أو “قوي.” وهذا أثار تساؤلات حول ما إذا كانت إيران تمتلك بالفعل القدرة على تنفيذ هذه التهديدات.

وقالت باربرا سلافين، زميلة متميزة في مركز ستيمسون، لدراسات الشؤون الخارجية “من الواضح جداً أن إيران متفاجئة بعض الشيء من كل هذا وتحتاج إلى وقت لإعادة تنظيم صفوفها.” وأضافت: “الإيرانيون سيظلون حذرين، فهم يدركون أن إسرائيل لا تزال في حالة مزاجية لتصعيد وضربات. سيعودون إلى تكتيكات حرب العصابات والصبر الاستراتيجي.”

محمد دلبح – واشنطن –

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى