أراء

عيد الجمهورية 68: نراوح مكاننا بين جمهورية الدولة الحريصة وواقع مأزوم …

بقلم أنيس الصمعي 

نصل اليوم إلى الذكرى الثامنة والستين لعيد الجمهورية، اليوم الذي قلب فيه الزعيم الحبيب بورقيبة نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، مؤسساً لفكرة أن تكون الجمهورية ضمانة للمواطنين في مختلف تفاصيل حياتهم، من أبسط دواليبها إلى أعلى هياكلها. هذه الفلسفة التي أسست لقيام الدولة الحريصة (l’État  Providence) انطلقت من عمق أجهزة الدولة وفكرها اليساري، الذي استوحاه الرئيس بورقيبة وعاشه من خلال التجربة الفرنسية في ثلاثينيات القرن الماضي، ولا سيما أفكار حزب الجبهة الشعبية الفرنسي بزعامة ليون بلوم سنة 1936.

في ذلك الوقت، طرح اليسار الفرنسي تصورات ثورية حول تحسين حياة العمال والطبقات الضعيفة والمتوسطة، عبر تشريعات العمل وسياسات الرفاه الاجتماعي. وقد زادت المجاعة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية من قناعة الرئيس بورقيبة بأن لا حياة للشعب دون تدخل أبوي للدولة الحريصة. أما اليوم، ونحن نحيي عيد الجمهورية سنة 2025، فإننا نكتشف واقعاً مغايراً؛ فقد رُفع الدعم نهائياً عن مادة القهوة، ولم تُحل مشكلة السكن لا من حيث الملكية ولا من حيث التسويغ. أما غلاء المعيشة، فقد أصبح جزءاً من حياتنا اليومية، في حين بلغت أسعار بعض المواد مستويات سريالية، بل ومثيرة للسخرية. من كان يتخيل يوماً أن يصل ثمن الكيلوغرام الواحد من التين إلى سبعة وعشرين ديناراً، أو أن يبلغ ثمن القهوة خمسة وخمسين ديناراً للكيلوغرام؟

من الواضح أن الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011 عجزت عن إيجاد حلول جذرية للأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجمهورية. ويمكن تفسير هذا العجز بغياب العمق العلمي في فهم الاقتصاد، وبقاء هذه الحكومات سجينة لرؤية ليبرالية، لا تدرك خصوصية الشعوب فقد ظلت هذه الحكومات بعيدة عن المبادئ العامة للاقتصاد، ونماذجه، ونواميسه، إضافة إلى غياب النظرة الاستشرافية، وعدم إدراك ركائز الاقتصاد، سواء كان صناعياً أو مركنتيلياً أو فيودالياً . لقد كان الصدع الحقيقي في الاقتصاد التونسي وفي سلطة الدولة العميقة والدولة الحريصة نتيجة اتفاقية 1995 مع الاتحاد الأوروبي، التي فتحت أبواب الاقتصاد أمام التحرير المطلق للأسعار والأسواق، ما أدى تدريجياً إلى انسحاب الدولة من حياة المواطن وتقليص تدخلها الاقتصادي. ومع مرور الوقت، انحصرت مهام الدولة في وزاراتها السيادية، وعددها أربعة أو خمسة، حسب التوجه السياسي لكل حكومة.

تحت سياسة وتوجهات الدولة الحريصة كان لدينا صناعة وطنية، كنا نقوم بتركيب شاحنات بيجو، سكانيا وفولفو والجرارات الفلاحية، إضافة إلى صناعات غذائية شتى كنا نصدرها إلى أوروبا، وكنا الأولين في إفريقيا والبلدان الإقليمية المغاربية، إضافة إلى البلدان العربية. وقتها كانت الشرطة والحرس الوطني يقودون سيارات BMW، وكانت الدولة تبني مدارس في الأرياف وتبني في المدارس وحولها سكناً للمعلمين القادمين من بعيد، وكانت لدينا صنابير مياه مجانية في كل تجمع سكني ليعتني المواطن بنظافته الجسدية… كان أول من بدأ في رفع الدعم الوزير القادم من فرنسا المهدي جمعة في قلب شهر رمضان لسنة 2014، وهي، سابقة لأن يتم رفع الأسعار في شهر رمضان، وقد نظر إلى ذلك من بعض الأطراف على أنه تحدٍّ صارخ لسائد الشعب. أما فيما يخص الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، فقد انفتحت الأسواق التونسية على المنتجات الأوروبية دون قيود فعلية، مما جعل السلع القادمة من أوروبا تدخل “بر تونس”، كما كان يسميها الزعيم، بلا حراسة ولا حدود فعلية. ونتيجة لذلك، أصبحنا نستورد من أوروبا ليس فقط ما نحتاج إليه، بل حتى ما لا نحتاجه إطلاقًا: من زيت الزيتون الإسباني، والأجبان الفرنسية، والشوكولاتة الفاخرة، إلى الملابس الداخلية النسائية المصنوعة من أقمشة عالية الجودة مثل الدانتيل والأورغنزا، مرورًا بالفواكه الاستوائية، والموز، والسجائر العالمية، والأحذية والملابس الرياضية… وكلها منتجات لا تمثل أولوية لاقتصادنا الوطني ولا لحاجاتنا الأساسية. وفي مقابل هذا التدفق الكبير للسلع الأوروبية إلى السوق التونسية، لم تلتزم أوروبا بالشق المقابل من الاتفاقية، إذ لم تسمح لتونس بالنفاذ العادل إلى أسواقها عبر التصدير، وهو ما يُعد خرقًا واضحًا لنص الاتفاقية وروحها. هذا الخلل الهيكلي أدى إلى عجز مزمن في الميزان التجاري، واستنزاف متواصل للعملة الصعبة، مقابل استهلاك متضخم لمنتجات كمالية لا تضيف قيمة حقيقية لاقتصادنا الوطني. كان من الأجدر، منذ سنوات طويلة، مراجعة هذه الاتفاقية غير المتكافئة، أو على الأقل إعادة التفاوض بشأن بنودها بما يحقق الحد الأدنى من التوازن. وفي حال استحالة ذلك، فإن اتخاذ قرار استراتيجي بإنهائها، سواء بصفة علنية أو عبر خطوات صامتة ومدروسة، كان سيشكل خيارًا عمليًا لإنقاذ الاقتصاد الوطني والحد من نزيف العملة الصعبة، هذا دون الحديث عن السلع التركية التي تدخل البلاد ، دون الحديث عن أن أوروبا أوهمتنا بأنها ستحول تونس إلى قطب صناعي حيث تصنع الطائرات والسيارات والقطارات وحتى التكنولوجيات العالية مثل بعض قطع غيار الحواسيب وحتى قطع غيار المراكب الفضائية، ولم نرَ منها شيئاً بعد ثلاثين سنة من الاتفاقية و68 سنة من الجمهورية.

تباعًا لمسلسل مصاعب الاقتصاد التونسي، سنمر إلى مشكل السكن ملكية وكراء… تُعد أزمة السكن في تونس إحدى أبرز الإشكاليات الهيكلية التي ترافق مسار الاقتصاد الوطني. سواء تعلق الأمر بالملكية أو بالكراء، فإن جوهر الإشكال واضح، كما أن الحلول تبدو متاحة، غير أن غياب التدخل التشريعي والتنفيذي الفعّال جعل الأزمة تتفاقم في صمت. ويظل المدخل الأساسي لمعالجة هذه الإشكالية هو الإصلاح القانوني، مع الحد من تغوّل المصالح المالية، سواء من طرف المقاولين أو المؤسسات البنكية، بما في ذلك البنك المركزي. إن إرساء منظومة تشريعية واضحة المعالم فيما يتعلق بالسكن والكراء من شأنه أن يبعث رسالة قوية مفادها أن السكن حق دستوري مضمون، لا يمكن تحقيقه إلا عبر قوانين تعديلية صارمة. فإذا ما استلهمنا التجربة الفرنسية في هذا المجال، لوجدنا أن التشريع الفرنسي ضمن حق الملكية من خلال إلزام البنوك، بنص قانوني، بمنح قروض دون فائدة لاقتناء السكن الأول أو لبنائه. وقد تم إقرار هذا الإجراء حديثاً إدراكاً من الدولة الفرنسية بأن من واجب المؤسسات البنكية أن تضطلع بدور اجتماعي واقتصادي، إلى جانب دورها المالي، بما يجعلها تتحمل مسؤولية في خدمة المواطن والاقتصاد الوطني، لا أن تظل مجرد طرف يسعى إلى تحقيق الأرباح على حساب التوازن الاجتماعي. وفي السياق ذاته، يتعين على الجماعات المحلية مراجعة شروط منح رخص البناء، ولا سيما الشروط التي تفرض حداً أدنى لمساحة الأرض (250 أو 200 متر مربع) للموافقة على الترخيص، وهو شرط بات مجحفاً في ظل الارتفاع الكبير لأسعار العقارات، حيث يتراوح سعر المتر المربع الواحد في الاحياء الشعبية العادية بين 800 و1000 دينار، في وقت لا يزال فيه الدخل الشهري للمواطن التونسي محدوداً وفي أفضل الحالات متوسطاً. إن هذه المعادلة غير المتوازنة، إلى جانب انسحاب السلطة العامة من دورها الرقابي والتوجيهي، جعلت مسألة التملك أمراً شبه مستحيل، وهو ما انعكس سلباً على الاستقرار الاجتماعي. أما على مستوى سوق الكراء، فإنه يظل مهمشاً بالكامل في غياب إطار قانوني خاص، إذ يخضع لعقود مبرمة وفق أحكام القانون العام، مما يكرس معضلة الحلقة المفرغة بين العرض والطلب ويجعل المالكين الطرف الوحيد المتحكم في تحديد الأسعار. وفي المقابل، تكشف التجربة الفرنسية عن نموذج مغاير، حيث تخضع سوق الإيجار لنظام قانوني منظم يحدد الأسعار الدنيا والقصوى وفق معايير موضوعية تشمل الموقع الجغرافي، المساحة المغطاة، المساحات الخارجية، جودة السكن ومستوى رفاهيته، فضلاً عن القدرة الشرائية للأسر المستأجرة. إن معالجة أزمة السكن في تونس لا يمكن أن تتحقق دون إرادة سياسية واضحة ورؤية تشريعية وتنفيذية متكاملة تأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه الإشكالية، بما يضمن التوازن بين الحق في السكن والقدرة الشرائية للمواطن، ويعيد للدولة دورها كفاعل رئيسي في ضبط السوق العقارية وسوق الإيجار، وهو ما نصصناه منذ البداية بالدولة الحريصة، ما نتوخاه وما نتمناه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى