ثقافة

حامد بن إبراهيم لـ “لوبوان تي آن”: هذه تحديات اللهجات في الدراما التونسية.. وهذه سبل تجاوز تعقيدات استعمالاتها وتوظيفها

عنوان مسلسل "وادي الباي" جعل المشاهد يفترض مسبقا   أن المسلسل بلهجة الفضاء المباشر وهي المدينة العتيقة لقفصة

تونس-لوبوان تي آن– متابعة الأعمال الدرامية التونسية الرمضانية وغير الرمضانية، أظهرت تنوعا في المواضيع وتحسن الجودة التقنية في المسلسلات وهي تستحق توصيفها بالناجحة في جوانب وفي أخرى تقتضي الأمانة نعتها بالممتازة خاصة لمن يعرف تحديات التمويل والوقت والبيروقراطية.

وبعد أن هدأت عواصف الآراء والتحاليل التي تعددت حول المشاريع الدرامية الرمضانية التونسية أصبح الآن من المتاح مناقشة تحدي استعمال اللهجات الجهوية بروية وهدوء باعتماد قواعد تحليل أقرب إلى العلمية والتأصيل السوسيولوجي الألسني منه إلى الأرائيّة التّذوقيّة الانطباعية.

وموضوع تنوع اللهجات في نصوص السيناريو للتلفزة أو السينما أو المسرح أو اللقطات الإشهارية لم يلق حظه إلى حد الآن في دراسات علمية مختصة وقد اتيحت لصحيفتنا لوبوان فرصة إثارة هذا الموضوع في حوار مع الاستاذ حامد بن إبراهيم المختص في العلوم السياسية الذي لامست اهتماماته دور اللهجات والاستعمالات اللغوية الدارجة في تحليل ظواهر مجتمعية سواء على مستوى الدول أو الجهات أو المناطق نزولا إلى القرية.

وفي ما يلي نص الحوار:

ما هو أول انطباع يرتسم في الذهن عندما نقيم استعمال اللهجات في الأعمال الفنية في بلادنا؟

جرت العادة على حصر الموضوع في “القالة”   و”الڤالة “ويتم اختزال أغلب أو كل اللهجات التي لا تستعمل القاف في لهجة يغلب عليها استعمالات معروفة في الشمال مثل “ڤلتْ ليه” للتعبير عن “قُتلو ” المستعملة في العاصمة في حين نجدها بطرق مختلفة حسب الجهات وحتى داخل الجهة والمدينة الواحدة مثل ڨُتلُو   عند جزء من سكان قفصة و” ڨُتلَهْ عند سكان المدينة القديمة وجزء من سكان قرية القصر المجاورة لها مباشرة.

هل من الممكن الحصول على آلية لتجنب الوقوع في إشكالية خلط اللهجات أو جمعها في سلة واحدة بتبسيط لا يحترم الخصوصيات ويضر بالعمل خاصة عندما يكون الكلام المستعمل أساسي ومقياس لمصداقية النص؟

رغم قلة الأعمال البحثية المهتمة بالموضوع وصعوبة الحديث عن آلية لغوية أو ألسُنيٌة إلا أن بعض القواعد يمكن أن تساعد في تجاوز جزء من التعقيد ومنها:

  1. اللهجات التونسية ليست متطابقة مع التقسيم الاداري للولايات بل تخضع لانتشار جهوي مناطقي والاختلافات توجد احيانا بداخل نفس المنطقة وحتى القرية بسبب تنوع الأصول والخلفيات الاقتصادية لكل مجموعة.
  2. حرف الشروع “سَ” الذي يدخل على الفعل المضارع في صيغة الفصحى “سَأفعل” يتحول في لهجات شرقية مثل السورية إلى راحْ وفي المغرب إلى غَادِ أما في تونس فحسب الجهات نجد ” ت” في قفصة ويقال تَنُشرب وتَنِكتب وتَنِمشي وفي الجنوب الغربي يستعمل حرف “ب ‘” مع الكسر اي بِناكل وهو شبيه ببعض اللهجات الشامية لكن بصيغة الفتحة أي ” بَروح”. ولتجنب إشكالية صيغة الشروع في الجهات يمكن استعمال “باش” المستعملة في العاصمة وهي صيغة تعممت وأصبحت تستعمل تقريبا في كل الجهات.
  3. ليس كل قاف تقلب “ڤ” في الجهات ففي ڤفصة مثلا تبقى القاف دون تغيير عادة مع اسم الآلة واسماء الأشياء مثل المقص والقصرونة والقرطاس والقلم والتقرير والقشابية والقرض والقرية والقرار والقفلة والقوافل – الجمعية الرياضة- والقطعة عند الحديث عن الأرض ويقال المقروض والمخارق والقادرية في توزر يقال المقفول وليس المڤفول.
  4. في بعض الجهات في نفس الجملة يستعمل اسم الآلة بالقاف ويصرّف الفعل بالڤ مثل “انڤص بالمقص” في قفصة. كما ثمة أفعال تُستعمل بالقاف حتى عند الحديث بالدارجة مثل “نقْرَ اليوم”.

وأحيانا يستعمل نفس الفعل حسب السياق بالقاف أو بالڤ مثل “نقطع العلاقة ” و ” نڤطع الخبر” اي أكتم السر .

  1. الانتباه الى معاوضة القاف بالكاف فالجوارب تسمى في العاصمة ” كٓلْصيطٓ” وتسمى في قفصة ” قلاصط” باستعمال القاف مثلما تستعمل في لهجة فلسطينية قديمة. والقاف والكاف من الحروف التي تعاوض كما يعرف في اللهجة النابلسية حيث يقال “الكدس” وليس القدس ومُكاتلين عوض مقاتلين.
  2. حرف التاء ينطق في بعض الجهات كتوزر ونفطة “تْشٓ” فيقال تْشمر عوضا عن تٓمْر  .
  3. هناك خطوط حمر لا يمكن تجاوزها في بعض اللهجات فالحوار الذي يدور في الجنوب الغربي لا البتة ان تستعمل فيه إيجا المستعملة في العاصمة (شبيه باستعمال شامي في صيغة الماضي: إِجَا عَدْنا) وتستعمل كبديل لها „ تٓعالٓ”مثلا في الجنوب الغربي. كما لا يجوز قطعا استعمال ” عٓندِك” في جملة مثل ” حٓشِتْهٓ عندك” التي استعملت في بداية مسلسل وادي الباي والتي تقال في قفصة حصرا ” حٓشْتْهٓ بيكْ”

الصعوبة تظهر حتما في تجنب تعميم استعمال أفعال معينة أو كيفية استعمال الضمائر على كل الجهات؟

هذه نقطة مهمة فمن الأخطاء إدراج “إِيجٓا” في حوار يدور في الجنوب إذ لا وجود لها البتة وتستعمل كلمة ” تٓعالٓ” في لهجات بلاد الجريد الموسع ابتداء من قفصة كما لا يجوز قطعا استعمال ” عٓندِك” في جملة مثل ” حٓشِتْهٓ عندك” والتي تقال في قفصة حصرا ” حٓشْتْهٓ بيكْ”. كما تستعمل القاف في التقصير المتعلق بالسلوك (قصّرت معاك) وتعتمد “الڤ  إذا تعلق الأمر بالمسافة ( نڤصّرو الطريق).

بالنسبة للضمائر فضمير المخاطب في لهجة العاصمة دائما مؤنث “إنتِ” لكن في لهجات المناطق الداخلية يغلب التفريق بين المؤنث والمذكر وتستعمل أنتٓ وإنتِ. أما المثنى المستعمل في العاصمة بصيغة إنتوما فهي غائبة في الجهات الداخلية إذ يستعمل الجمع ابتداء من اثنين كما هو سائد تقريبا في كل لغات العالم.

في نقاش سبق معنا اعتبرت أن كتّاب السيناريو عليهم أن يركزوا على الشعر الشعبي والاذكار الدينية والأمثال الشعبية لجهة أو مدينة العمل لأنها وعاء لساني أمين. هل من تفصيل لهذا؟

الأمثال الشعبية تعكس ثقافة وطريقة تفكير من يستعملها ومنها ما هو عام يستعمل في كامل البلاد مثل ” العززوة هازها الواد وتقول العام صابة” وتوجد امثال لا تنطبق إلا على سكان المدن الحضرية في المناطق التي تعتمد الفلاحة السقوية . ففي قفصة يقال ” ما تسيب ماء الا إذا شديت ماء” وهذا خاص باصحاب بساتين الزيتون في الواحة ويعني لا تسلم في شيء إذا بديله غير مضمون. أما سكان الأطراف التي كانت تعتمد الزراعات البعلية فيقولون” فلان يحرث على البرْڤ” اي يتسرع في قراراته كمن يبادر بالحرث لمجرد رؤية البرق الذي قد لا تعقبه امطار ويكون بذلك فرط في بذوره.

الاذكار الدينية الصوفية عادة موجودة في المدن الحضرية ومرتبطة بالعائلات أو ما يسمى ” دار” وهو نفس الأمر في القرى التي بها الزوايا أما الشعر الشعبي فهو مخزون لغوي عادة مرتبط بالقبائل والعروش.

بعد هذا التقديم النظري الذي لا يتسع المجال للاسف في حوار مقتضب لمزيد التوسع والإسهاب فيه، يمكن تناول عمل أثار   ردود مختلفة بسبب موضوع اللهجة وهو مسلسل ” وادي الباي” الذي تم بثه رمضان الماضي. فما هو انطباعكم حول مدى نجاح هذا العمل؟

يمكن القول أن العمل كان مقنعا وموفقا في الكثير من الجوانب خاصة لمن يعلم ما واجهه فريق التنفيذ من تحديات الوقت وظروف التصوير وإشكالية الأزياء التي تم إنجازها خصيصا لتقريبها لفترة وقوع الأحداث رغم بعض الأخطاء الجسيمة كعدم استعمال الحرام الأسود بالنسبة للنساء في حومة وادي الباى. وعلى من يقيٌم مثل هذه الأعمال أن يراعي ما عرفه العمل من مراحل تحضير معقدة   وبذلت جهود كبيرة للتغلب على مشكل اللهجة بالجهة وفي تقديري يصعب إرضاء انتظارات الجميع وهذا أمر طبيعي لان الأعمال الفنية نفسها لا تدعي الكمال.

هل يمكن القول أن عنوان المسلسل كان في حد ذاته نوعا من الحصر الإطاري الاجتماعي الثقافي اللغوي؟

من المعلوم أن كل عمل درامي يبنى على محاور يدور حولها الصراع الداخلي والخارجي للشخصيات الرئيسية التي تواجه عقدة درامية تبنى حولها المضامين التي يهدف العمل إلى إيصالها. وعنوان المسلسل الذي يعتبر مفصليا في القصة جعل المشاهد يفترض مسبقا   أن المسلسل بلهجة الفضاء المباشر لوادي الباي وهي المدينة العتيقة لقفصة التي تضم الجامع الكبير الذي كان الفرع الزيتوني السابق بالجهة. وإن معرفة هذا المعطى مهم لأن له أثر في طبيعة اللهجة الخاصة التي تعتمد في المدينة التي لها تركيبة ديمغرافية حضرية مرتبطة بالعلم الديني والوظائف الإدارية عبر قرون والتدريس والفلاحة الواحِيٌة والحِرف.

الحلقة الديمغرافية الثانية في جهة قفصة خارج إطار المدينة العتيقة منقسمة إلى ثلاث أحزمة وتُعتمد فيها لهجات ذات قواسم مشتركة مع اللهجة الحضرية لكن لها خصوصياتها ونبرات نطقها الخاص وتتميز بمخزون لفظي ثري ومختلف احيانا.

المخرجة والممثلين صرحوا أنهم تفاجؤوا بتعدد اللهجات وصعوبة الوقوف على خط الْسُني جامع!

نوعية النطق ترتبط بأصول الأفراد التي تتراوح بين أمازيغية خالصة كالقرى الجبلية في السند وعرباط وأولاد بوعمران والعيايشة أو مزيج عربي أمازيغي ثم الأصول العربية من الوافدين الأولين في نهاية القرن السابع الميلادي أو من الأصول العربية المنتمية لفترة ما بعد الدولة الفاطمية اي الأصول الهلالية.

وبالنظر إلى ما تقدم فإن اللهجة المتوقعة مرتبطة بعنوان المسلسل ومحاولة توحيد اللهجة في المسلسل لتشمل قفصة العتيقة والحوض المنجمي تسبب في انتقاد من المتابعين على المستوى الجهوي وعند النقاد المختصين لأن طريقة الكلام  ( soft/ hard) والنطق ( بالمدٌ ام بدونه) والمفردات في المنطقتين لها خصوصيات

هل كان من الممكن حل هذه الإشكالية من خلال السيناريو؟

كان من الممكن وضع  المحور الرئيسي  للمسلسل في الحوض المنجمي  والتركيز على رمزية الداموس النضالية  وحصر اللهجة في النبرة القريبة من لهجة بلاد الجريد عموما وتجاوز إشكالية خصوصية اللهجة الحضرية لقفصة المدينة بإضافة محور أو عقدة منفصلة جغرافيا بوضوح عن الحوض المنجمي وتُبنى لهذا المحور/ العقدة  سردية واحداث  في قفصة المدينة أساسها  ترابط مدن المركز مع المناطق المجاورة والالتقاء  في التصدي للاستعمار مع اظهار فاعلية   الزعامة الدينية  المرتبطة بالفرع الزيتوني ودورها المحوري في تكوين أجيال من المناضلين والقادة على مستوى الجهة. مع العلم أن الشخصيات التي عرفت في قفصة كمناضلين مرتبطين بالتعليم الزيتوني أو ذوي المرجعية الصوفية كان خطابهم أقرب إلى العربية على غرار ما يعرف به الزواتنة في كامل الجمهورية.

هل يمكن أن نرى في المستقبل مشاركة لكم في كتابة سيناريو أو في تنفيذ فكرة سيناريو سواء في مسلسل تلفزي أو في فلم؟

قد انتهيت من كتابة سيناريو لسلسة ويتولى أحد المخرجين المعروفين تدقيق الحوار  ومراجعتها دراميا  كما انتهيت من المعالجة الدرامية لفكرة فيلم اتفقت على فكرته مع مخرج الماني وتوجد بعض الأفكار التي يمكن أن تتحول الى مشاريع ملموسة وفرصة للاستفادة من جانب من الخبرة المتواضعة في الدراسات السياسية ومما أمكن تجميعه من أفكار وتحاليل حول مواضيع مجتمعية ودينية وخاصة الصوفية.

أسماء وهاجر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى