أراء

جائزة نوبل للسلام: أمريكا من الاستراتيجي الى الشّخصي

"قد نرى نزاعا بالوكالة في أذربيجان بين الحلف الأطلسي وروسيا..."

 

  • حامد بن إبراهيم/ استشاري في العلاقات الدولية

***
تراجع الريادة الأورو أطلسية تُثبته وقائعٌ موضوعيّة ملموسة، أهمها تراكم الهزائم الاستراتيجية في فيتنام وأفغانستان والعراق والعجز عن إغلاق جبهات الشّرق الأوسط واوكرانيا. فضلا عن خسارة النفوذ والتأثير في افريقيا وامريكا اللاّتينية. وقد علّمتنا تجارب روما وقرطاج وبيزنطة والصين والدّولة العثمانية والاتحاد السوفياتي، ان الامبراطوريات لا تُقوّض في مواجهة مفصلية من الخارج مثل الدول الصغيرة، وانما تُراكِم الأخطاء والخيارات الهدّامة فتتآكل من الداخل وتتفكك. وهذا القانون التّاريخي قد يكون بصدد التّحقق في أمريكا؛ التي انتقلت من مُلقِّنٍ لدروس الحريّة والدّيمقراطية الى دولة تُنتَهك فيها حقوق المهاجرين حتّى بعد إنصافهم قضائيا احيانا، والأخطر عسكرة المُدن والتّدخل غير القانوني للأجهزة الفدرالية في شؤون الولايات. ويكاد يحصل اجماع على انّ فُرص التّدارك تضيق امام أمريكا، نظرا للتّعقيدات المتوقعة بعد الانتخابات النّصفيّة القريبة، والتي قد تصل ذروتها مع الانتخابات الرئاسية القادمة.

والمتابع لتصرّفات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومزاجيّته في التّعاطي مع أخطر الملفات الدولية، التي تحصد الالاف من أرواح الأبرياء، يَستنتجُ بسهولة ان واشنطن التي كانت تَتّبع دائما استراتيجيات مدروسة ومبنيّة على استشراف معمّق، يصيب ويخطأ حسب تطوّر الاحداث، أصبحت اليوم تَسير خلف طموحات رئيسها في تجميع النّياشين والتّكريم. وما الهوس بالحصول على جائزة نوبل للسّلام الا دليل على درجة الاستخفاف بقضايا الحرب والسلم، التي تُوظَّف في سيناريوهات التّسويق الشخصي والجرْيِ وراء الحصول على اللّقطة المناسبة؛ وغالبا ما يَغيب العُمق في التّعاطي ونَفتقد استمرارية المتابعة، كما شاهدنا ذلك في اللقاء مع بوتين وفي “وقف إطلاق النّار” مع إيران، او في تعثّر الوساطة الامريكية في لبنان. واما ملفّ غزة فالأيام ستُثبت ان الشّيطان في التفاصيل، والموعد مع تجدُّد الاشتباكات ليس ببعيد.         

وسنرى من خلال الفقرات التّالية بعض ملامح المشهد الدّولي وما يثيره من أسئلة مُلحّة، كان يُفترض ان تُوليها الإدارة الامريكية غاية العناية، إن كانت بالفعل تحرص على مواصلة الرّيادة، او على الأقل الصّمود في وجه المنافسين الجُدد والقوى الصّاعدة من الجنوب.

استفاقة الجنوب وتراجع الأورو اطلسية

تعدّدت المؤشرات، خلال العشرية الأخيرة، على استفاقة الجنوب المُفقَّر من غفوته التي دامت ما يقارب نصف ألفيّةٍ، فَرض خلالها الغرب الأطلسي المُوسّع سرديّته واحتكر الثروة وتلاعب بمصائر الأمم. وخلال زمن الضّعف والتّبعية الطّويل، قدّمت دول الجنوب ملايين الشهداء في الثورات ضد العبودية وفي حروب التحرر من الاستعمار وخلال التصدي للنّازية والفاشيّة.

وليس من باب المغالاة القول، أنّ اجتماع منظمة شانغهاي الأخير قد أرّخ لانتقال العالم من هيمنة الأحاديّة الغربيّة إلى التّعددية القطبيّة. وقد يكون توصيف “موكب توديع الغَلَبةِ الأورو أطلسية”، أحسن عنوان لاحتفاليّات عيد النصر الصّيني على اليابان في سبتمبر 2025. ومن يَبحث في اعماق الذّاكرة الصّينية، سيفهمُ حتما الرّسالة المُبطّنة للاستعراض العسكري الصيني، التي يمكن ايجازُها في: “حان وقت الثأر لحرب الأَفيون وإنهاء انتكاسة الجنوب الطّويلة وتجاوز تبعات العهد الاستعماري المظلم”.

وقد شكّلت قِمّة شانغهاي الأخيرة، لحظة مفصليّة في التاريخ، اذ كانت إطارًا لإعلان الأقطاب الصّاعدة عن قدرتها على تجاوز الغرب تكنولوجيّا واقتصاديّا، وفرصة لإظهار الإصرار على وجوب التّعامل باحترام وندّية. فالجنوب لم يعد يتردّد في المجاهرة بالتّضامُن في وجه القوى الغربيّة – ملف النّفط الّروسي الهندي مثالا-، ويُظهر وقوفه جبهويّا في مواجهة التّحديات الكبرى، رغم كل الخلافات التّفصيلية حول قضايا ثُنائية، كالنّزاع الحدودي الصّيني الهندي أو النّزاع حول كشمير.

” قوة سيبيريا 2“: الأمان الطّاقِي الأوراسي وتحصين آسيا الوسطى

يسود التّوافق بين المتابعين لديناميكيّة العلاقات في الفضاء الأوراسي، على انّ كل من حضر قمّة شانغهاي سيلعب دورا – بدرجات متفاوتة- في التّوازنات الدّولية المستقبلية. وتوقيعُ الصين وروسيا ومنغوليا على اتّفاق إنجاز مشروع ” قوة سيبيريا 2″، هو شهادة تأمين بالحدّ الأدنى لنصف قرن قادم، لنظامٍ روسي تَحكمه النّخبة الأمنية من كوادر المخابرات والجيش، او ما يُعرفُ بطبقةُ “السِّيلوڤِيكي” Silowiki.

وبالنّسبة للصين، يعتبر الاتفاق صَكُّ ضَمانٍ طاقِيٍّ؛ يُحرّرها من تبعات اهتزازات الوضع الأمني في الشرق الأوسط، الذي لا يزال تحت التأثير المباشر لسياسات واشنطن وما يرتبط بذلك من مخاطرِ تَقَطُّعِ الامداد أو ارتفاع الأسعار بسبب النزاعات و”تكتيكات التّطويق الساخن” للمنافسين والاعداء، التي يُحرّكها البيت الأبيض.

أمّا منغوليا والدّول المجاورة، كأوزباكستان وتركمانستان وطاجيكستان وكازاخستان وقرغيزستان، فقد أبلغت الغرب، من خلال حضورها في بيكين، أنّ جغرافيّتها وخياراتها أُوراسيّة، وأنها لن تنخدع بالانجرار لمواجهة مع الصين. ومن جهة أخرى، عبّرت هذه الدول ضمنياّ بحضورها عن رفض مساندة النهج الانفصالي لإقليم شينجيانغ، ذو الحكم الذاتي لقوميّة الويغور التّركية المنغولية. وهذا لا ينفي، مساندة الويغور الثابتة في مطالباتهم بحقوقهم وبالمساواة في المعاملة على أساس المواطنة دون تمييز على أساس اثنِي أو ديني. وحسب تقدير الكثير من المختصين في هذه المنطقة، فإن الدّول الإسلامية تُفّضل طرح موضوع الويغور عبر الحوار الهادئ مع بيكين؛ فالكلّ يدرك أن انفصال إقليمٍ بمساحة خُمس الصّين و80 % من مخزونها للطاقة، هي مسألة وجودية مرتبطة بالأمن القومي، والصين سَتقضي فيها على الأخضر واليابس إذا فُرضت عليها المواجهة.

بحر قزوين والقوقاز: الدّور الملتبس لأذربيجان

ترى بعض القراءات في جهود باكو لفرضِ “ممر زانجيزور” عبر أرمينيا، تناغُمًا مع السّعي الأمريكي للولوج الى جوار إيران، وللتقرب من القوقاز، الخاصرة الرخوة للاتّحاد الروسي.  كما انّ “ممر زانجيزور” مستلهمٌ من الفكر الوحدوي التّركي ومُستهدفٌ قومي لأنقرة. وبالنسبة لإيران، لا يقل الطموح التركي تهديدا مقارنة بالخطر الأطلسي، لأن الجَمعَ الجغرافي بين تركيا وأذربيجان قد يغذّي النّزعة الانفصالية لمقاطعة أذربيجان بالشمال الغربي الإيراني، التي تحوي قرابة ربع سكان الجمهورية. وقد نرى بعد حرب اكرانيا، نزاعا بالوكالة في أذربيجان بين الحلف الأطلسي وروسيا ولا يستبعد لعِبُ إيرانَ لدورٍ ما، بشكل مباشر او بالإسناد الصّامت، على شاكلة ما يجري في اكرانيا.

وتبقى سياسات أذربيجان الغامضة في عديد الملفات، مصدر تهديد للاستقرار في الفضاء الأوراسي، ويستدعي دورها تحليلا مُركَّزا ومعالجةً جذريةً، خاصة من قبل إيران وروسيا وأرمينيا والصين وباكستان. ورغم حرص إيران على تجنُّب “الضَّجيج” في التعامل مع أذربيجان، إلا أن معلومات كثيرة تَرشَحُ عن شُكوكِ إيران في تورّط نظام باكو في ملفات لصالح إسرائيل؛ ولعلّ أخطرها الدور المحتمل، سواء بالفعلِ او بالتّغاضي، في اغتيال الرئيس إبراهيم رئيسي والوفد المرافق له. هذا إلى جانب احتمال التعاون مع الموساد في الاعتداء على إيران في حرب الاسبوعين.

وختاما، من الّضروري حرصا على الموضوعيّة الإشارة الى ان الأصوات الحيّة في الغرب وفي الولايات المتحدة بالتّحديد ليست غائبة، وترتفع بشكل دائم للتّنديد بالانحرافات وبعبثيّة السّياسات الدّاخلية والتّوجهات الخارجيّة، التّي تَضر بالاستقرار وتضرب فرص بناء المستقبل على أسس مستدامة سياسيّا واجتماعيا واقتصاديا. والشّاهد على بقاء ما يُبرر الأمل في رجوع الحِكمة في العمل السياسي بالغرب، هي التّحركات التي تشهدها العواصم والمدن مناصرة لغزة وللقضية الفلسطينية ولقضايا عديدة أخرى مرتبطة بالعدالة الاجتماعية وبحقوق المهاجرين او بالمناخ.

  • حامد بن إبراهيم/ استشاري في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى