
محمد العرب،تونس،الذكاء الاصطناعي عدت إلى تونس بعد أكثر من عقد، وفي داخلي ألف سؤال عن ملامحها التي تركتها في ذاكرتي كلوحة فنية لا تشيخ يا ترى أي تغيّر أصابها؟
كيف صمدت في وجه الرياح العاتية التي عصفت بالمنطقة؟ لكن منذ اللحظة التي لامست فيها قدماي أرض قرطاج، أدركت أن في تونس روح تنبض بحياة لا تخمد، وجمال لا يخفت، وأصالة لا تتغير.
في شوارعها، في أزقتها، بين بيوتها البيضاء والزرقاء التي تعانق البحر، شعرت أنني لم أغب يوماً عن هذه الأرض، وكأن الزمن قد توقف ليحفظ لها رونقها. تونس ليست كأي بلد، بل هي فسيفساء من الحضارات، امتداد فينيقي وروماني وعربي وإسلامي، يُجسد كيف يمكن للتاريخ أن يتجسد في وطن ويصبح قصة تُروى للأجيال.
الهواء في تونس نسيم يداوي بلا أدوية ، مزيج من رائحة البحر والبرتقال والياسمين، يذكرك بأنك في أرض لم تتخلَّ يوماً عن هويتها. حين تسير في شوارعها، ستشعر وكأنك في لقاء مع الماضي والحاضر، حيث الأسواق العتيقة لا تزال تروي قصص التجار الأندلسيين، وحيث المقاهي التي احتضنت الأدباء والفنانين لا تزال تعج بالنقاشات العميقة والضحكات الدافئة.
أما الإنسان التونسي فتلك قصة اخرى ، هو كنز تونس الحقيقي، جوهرة تتلألأ بأخلاقه، وطيبته، وعقله الذي يجمع بين الحكمة والبساطة ، هذا الشعب الذي مر بمخاضات التاريخ وصمد أمام التحولات الكبرى، ظل يحمل روحه المتمردة، الشغوفة بالحياة، المتعطشة للحرية والمعرفة. التونسي بسيط في مظهره، عميق في فكره، يأسرك بثقافته المتجذرة التي تحمل مزيجاً فريداً من العروبة والانفتاح على العالم.
دخلت أسواق تونس القديمة، تلك المتاهات العجيبة التي تفوح منها رائحة التوابل والجلود، حيث تلتقي الألوان بالعطور، وحيث الباعة لا يبيعون فقط المنتجات، بل يبيعون الابتسامة والكلمة الطيبة والنكتة العفوية التي تجعلك تشعر أنك واحد منهم. في تونس، لا يمكنك أن تكون غريباً ، فكل من تلتقيه سيجعلك تشعر أنك ابن هذا الوطن، وأن هذه الأرض تعرفك منذ الأزل.
وإذا كان هناك سرٌّ يجعل تونس مميزة عن غيرها، فهو قدرتها على الحفاظ على توازنها الساحر بين الأصالة والحداثة. ترى النساء يرتدين الجُبّة التقليدية بجوار أخريات يرتدين أحدث صيحات الموضة، تسمع أغاني الملحون الأندلسي تعانق أنغام الجاز، وتجد في كل زاوية مزيجاً بين عبق الماضي وروح العصر.
أما الطبيعة، فهي أسطورة أخرى في تونس. من الشواطئ الفيروزية التي تمتد على طول الساحل إلى الصحراء الشاسعة التي تحتضن ليالي النجوم، إلى جبال الشمال التي تزينها غابات الصنوبر، كل جزء في تونس يروي قصيدة من الجمال لا يمكن أن تتكرر ، تونس ببساطة حالة وجدانية يعيشها كل من يزورها، وذكرى تبقى محفورة في القلب للأبد.
وحين جلست في أحد مقاهي العاصمة التراثية التي تبدو وكأنها خرجت من حلم أندلسي، أدركت لماذا أحبها الشعراء والفنانون، ولماذا لا يمكن لمن زارها أن يغادرها دون أن يحملها معه في قلبه ، في تونس الجمال اكثر من كونه مجرد مشهد، بل هو إحساس يسري في روح المكان والإنسان.
أكثر ما أدهشني هو أن تونس، رغم كل التحديات، لم تفقد بريقها. لا تزال شامخة، أنيقة، ساحرة، مليئة بالحياة. لم تستسلم للصعاب، بل حولتها إلى قوة، كأنها فينيق ينهض من الرماد كلما حاولت العواصف إسقاطه. هذه الأرض لا تعرف الانكسار، وهذا الشعب لا يعرف الهزيمة، بل يؤمن بأن الغد يحمل دائمًا إشراقة جديدة.
بعد أكثر من عقد، عدت إلى تونس ووجدتها كما تركتها… بل أجمل، أنقى، وأقوى ، تونس قصيدة مكتوبة بحبر الشمس، وأغنية يعزفها البحر، وحكاية لن تنتهي أبداً