
في مشهد يتجاوز البعد الاداري لتوقيع العقود، حمل موكب توقيع عقد انجاز مستشفى الملك سلمان بن عبد العزيز الجامعي بالقيروان ظهر اليوم في مقر وزارة الصحة بالعاصمة دلالات سياسية وانسانية عميقة، تعكس تحولا نوعيا في مسار العلاقات التونسية السعودية، حيث تصبح الصحة عنوان الشراكة، والانسان جوهر التعاون، والجهات الداخلية في قلب الاهتمام.
فهذا المشروع الضخم، الذي طال انتظاره منذ 2017، لا يمثل مجرد منشاة استشفائية جديدة، بل يعد تتويجا لمسار من الدعم السعودي المتواصل لتونس في المجالات الحيوية، وعلى راسها الصحة باعتبارها حقا انسانيا وسياديا في الان ذاته.
مستشفى بمعايير دولية… ومواصفات عالية
حسب المعطيات الرسمية، يعد مستشفى الملك سلمان بالقيروان واحدا من اكبر المشاريع الصحية الجديدة في تونس، بطاقة استيعاب تبلغ 320 سريرا في المرحلة الاولى لترتفع لاحقا الى 500 سرير، وعلى مساحة جملية تفوق 269 الف متر مربع، بكلفة انجاز تناهز 420 مليون دينار، منها هبة سعودية بـ246 مليون دينار.
هذه الارقام لا تعكس فقط ضخامة المشروع، بل تؤكد اننا امام مستشفى جامعي بمعايير عالمية سيضم مختلف الاختصاصات الطبية الحديثة، بما يعني تخفيف الضغط عن المستشفيات الجامعية الساحلية، تقليص معاناة التنقل والعلاج لاهالي القيروان والولايات المجاورة، تحسين جودة الخدمات الصحية في عمق البلاد واستقطاب كفاءات طبية وشبه طبية عالية المستوى
وهنا يتحول المشروع من استثمار مالي الى استثمار في العدالة الصحية.
من الهبة الى السيادة الصحية
ما يميز هذا المشروع ليس فقط حجمه، بل مصدر تمويله ايضا، حيث يأتي في اطار هبة سعودية مباشرة، وهو ما يضعه ضمن خانة الدبلوماسية الانمائية والإنسانية التي تعتمدها المملكة في علاقاتها مع عدد من الدول الشريكة.
في هذا السياق، لم يكن تصريح السيد مصطفى الفرجاني وزير الصحة عن “اعادة بناء المنظومة الصحية وتعزيز السيادة الصحية” مجرد عبارة بروتوكولية، بل هو توصيف دقيق لتحول استراتيجي تسعى تونس الى تكريسه من خلال إقامة بنية تحتية حديثة، تجهيزات متطورة، موارد بشرية مؤهلة، استقلال تدريجي عن العلاج في الخارج.. وهو ما يجعل من هذا المشروع احد المفاتيح العملية للسيادة الصحية الوطنية.
من مدينة مهمشة الى قطب صحي استراتيجي
اختيار القيروان لم يكن صدفة. فالمدينة، التي تعاني منذ سنوات من ضعف الخدمات الاستشفائية مقارنة بثقلها الديمغرافي والرمزي، تجد نفسها اليوم امام فرصة تاريخية للتحول الى قطب صحي جهوي يخدم الوسط الغربي برمته.
فالمستشفى الجامعي الجديد سيغير خريطة العلاج في منطقتي الوسط والجنوب التونسي وخاصة ولايات القيروان، سيدي بوزيد، قفصة، القصرين، سليانة، زغوان وغيرها.. وبذلك تنتقل الصحة من مركزية الساحل والعاصمة الى توازن جهوي طال انتظاره.
تحالف تونسي سعودي.. شراكة تنفيذ لا مجرد تمويل
من النقاط اللافتة في المشروع، اعتماد تحالف مقاولات تونسي سعودي لإنجاز الاشغال، وهو ما يعكس انتقال التعاون بين البلدين من مستوى التمويل الى مستوى التنفيذ المشترك ونقل الخبرات.
وقد سبق لهذا التحالف ان انجز مشاريع صحية اخرى مثل مستشفيي سبيبة والجم، وهو ما يعزز الثقة في احترام الآجال وجودة الانجاز، ويكرس خلق مواطن شغل مباشرة وغير مباشرة، نقل خبرات هندسية وتقنية، دعم النسيج الاقتصادي المحلي
عندما تتلاقى الارادة السياسية مع البعد الإنساني
تصريحات الدكتور عبد العزيز الصقر سفير المملكة العربية السعودية في تونس أمس كانت واضحة” الصحة في صدارة اولويات التعاون بين البلدين“وهو تصريح يحمل رسالة مزدوجة، سياسيا تأكيد متانة العلاقات الرسمية بين تونس والرياض وانسانيا، اعتبار دعم قطاع الصحة دعما مباشرا للمواطن التونسي.
وفي المقابل، حرص الرئاسة التونسية على متابعة المشروع بشكل يومي، يعكس ايضا ان الصحة اصبحت ملفا سياديا بامتياز، يتقاطع فيه الاجتماعي بالسياسي، والداخلي بالخارجي.
من مستشفى الى نموذج شراكة انسانية
مشروع مستشفى الملك سلمان بالقيروان يتجاوز كونه بناية اسمنتية وتجهيزات طبية، وموارد بشرية من إطارات طبية وشبه طبية واداريين بل اصبح رمزا لتحول العلاقات التونسية السعودية نحو الشراكة المجتمعية ونموذجا للدبلوماسية الصحية ومثالا على توظيف المال السياسي في خدمة الانسان…وهو ما يفتح الباب امام مشاريع صحية اخرى مستقبلية، سواء في مجال مراكز الاختصاص أو زراعة الأعضاء أوكذلك علاج الأورام والتكوين الطبي المشترك…
ومن خلال الدفع التونسي –السعودي لمشروع مستشفى القيروان في انتظار القطب الطبي بالقيروان قريبا، يتأكد أن العلاقات التونسية السعودية لم تعد علاقات بيانات رسمية وزيارات بروتوكولية فقط، بل اصبحت علاقات تنموية إنسانية متلاحمة ومترابطة واليوم لم يتم توقيع عقد بناء مستشفى فحسب، بل تم توقيع عقد امل جديد بين الدولة ومواطنيها، وبين تونس وشريك عربي مميز اختار ان يستثمر في صحة الانسان قبل كل شيء.








