بين مصر وغزة: عبد الفتاح السيسي وصناعة الدور الإنساني والإقليمي

لوبوان- كتب سفيان رجب
منذ اندلاع جولة التصعيد الأخيرة في قطاع غزة، برزت مصر كقوة إقليمية محورية تحرّكت بثبات على مستويين متوازيين: البعد الإنساني المباشر المتمثل في إغاثة الشعب الفلسطيني، والدور السياسي-الدبلوماسي في التوسط وتنسيق الجهود الدولية والإقليمية. ومع تزايد التعقيدات الميدانية والإنسانية، ظلّ اسم القاهرة يتردد باعتبارها الجسر الوحيد بين غزة والعالم، وقلب المبادرات التي تضع حماية المدنيين في صدارة الأولويات.
الجسر الإنساني.. أرقام تعكس حجم الالتزام
تؤكد الأرقام أن مصر لم تكتفِ بالمواقف المبدئية، بل تحولت إلى ممرّ حيوي لكل ما يصل إلى القطاع من مساعدات. فقد بلغت كمية المساعدات التي أرسلتها القاهرة وسهّلت مرورها إلى غزة ما يقارب 500 ألف طن، أي أكثر من نصف مليون طن من الأغذية والأدوية والمستلزمات الطبية والإيوائية. وتشير البيانات الرسمية إلى أن مصر تتحمّل ما يزيد عن 70% من إجمالي المساعدات التي وصلت إلى القطاع خلال الأشهر الماضية، ما يجعلها العمود الفقري لجهود الإغاثة.
وعلى صعيد النقل البري، دخلت غزة عبر المعابر المصرية ما يفوق 45 ألف شاحنة مساعدات منذ بدء الأزمة، محمّلة بالمواد الغذائية، الأدوية، الأغطية، وحتى معدات توليد الكهرباء. وقد تحولت مدينة العريش إلى مركز رئيسي لتجميع المساعدات القادمة من مختلف أنحاء العالم، قبل أن تنقل عبر معبر رفح أو كرم أبو سالم إلى الداخل الفلسطيني.
كما أطلقت القاهرة قوافل إغاثية متتالية تحت مسمى “زاد العزة”، ضمّت آلاف الأطنان من السلع، أبرزها أكثر من 750 ألف سلة غذائية جاهزة للتوزيع، بالإضافة إلى توفير 30 ألف رغيف خبز يوميا من المخبز الإنساني في الشيخ زويد، وقرابة 4400 طن من الدقيق، وهو ما أسهم في تقليص حدة أزمة الجوع داخل القطاع.
الاستجابة الطبية.. مصر تفتح أبوابها لجرحى غزة
إلى جانب الغذاء والدواء، فتحت مصر مستشفياتها أمام الجرحى والمرضى الفلسطينيين. وتشير بيانات وزارة الصحة المصرية إلى أن مصر استقبلت منذ نوفمبر 2023 وحتى منتصف 2025 ما يزيد عن 7200 مريض فلسطيني، وأجرت قرابة 3000 عملية جراحية لإنقاذهم. هذه الأرقام تعكس التزاما عمليا يتجاوز المساعدات العينية، ليشمل إنقاذ الأرواح وتوفير الرعاية الصحية المتخصصة التي يفتقدها القطاع تحت وطأة الحصار والدمار.
هذا الدور الصحي تضاعفت أهميته مع انهيار البنية الطبية داخل غزة، حيث تعطلت عشرات المستشفيات والمراكز الصحية بفعل الاستهداف ونقص الوقود، ما جعل مصر الملاذ الأساسي للجرحى والحالات الحرجة.
التحديات اللوجستية والسياسية
إن إيصال هذا الحجم من المساعدات لم يكن مهمة سهلة. فالمصادر الإنسانية تقدّر أن قطاع غزة يحتاج يوميا إلى ما لا يقل عن 700 إلى 900 شاحنة لتغطية احتياجاته الأساسية، بينما لم تتجاوز القدرة الفعلية في فترات كثيرة بضع مئات من الشاحنات بسبب التعقيدات الأمنية والإجراءات على المعابر. وقد أدى ذلك إلى تكدّس آلاف الشاحنات في الأراضي المصرية بانتظار الموافقات اللازمة.
ومع ذلك، نجحت القاهرة في إدارة هذا التحدي عبر مضاعفة الضغط السياسي والدبلوماسي لتسهيل مرور المساعدات، وفي الوقت نفسه تطوير البنية اللوجستية في شمال سيناء لتخزين المواد وتوزيعها بشكل متدرج.
السيسي والدبلوماسية الإنسانية
لم يقتصر الدور المصري على الجانب الميداني، بل امتد إلى الساحة الدولية حيث تصدّر الرئيس عبد الفتاح السيسي الدعوات لوقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية. وفي كل محفل دولي، شدّد على أن الحل الجذري يكمن في إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، مؤكداً أن مصر لن تسمح بأي محاولات لتصفية القضية أو تهجير الفلسطينيين خارج أرضهم.
هذا الحضور السياسي عزّز صورة مصر كفاعل لا يمكن تجاوزه، خاصة وأنها الطرف الوحيد القادر على التحدث مع جميع الأطراف المعنية، سواء الفصائل الفلسطينية أو القوى الدولية، بفضل رصيدها التاريخي وعلاقاتها المتوازنة.
مصر بين الإنسانية والاستراتيجية
ويعكس هذا الدور وجهين متكاملين:
أولا، وجه إنساني يضع مصر في موقع “الملاذ الأخير” لغزة في مواجهة الكارثة.
ثانيا، وجه استراتيجي يعزز من نفوذ القاهرة الإقليمي، ويؤكد أنها لاعب رئيسي في أي ترتيبات تخص فلسطين والمنطقة.
ورغم الكلفة الاقتصادية الكبيرة على مصر، التي تعاني أصلا تحديات داخلية، فإن القيادة السياسية فيها اختارت الاستمرار في هذا الالتزام، في قراءة واضحة لمعادلة الأمن القومي: استقرار غزة جزء من استقرار مصر والمنطقة.
ومن خلال الأرقام والمعطيات، يظهر أن القاهرة لم تكتفِ بالخطاب السياسي بل ترجمت مواقفها إلى جهد ملموس: مئات الآلاف من الأطنان من المساعدات، عشرات الآلاف من الشاحنات، آلاف المرضى الذين عولجوا في مستشفياتها، وقوافل إغاثية مستمرة.
إن مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي لم تقدّم نفسها كوسيط فقط، بل كحاضنة سياسية وإنسانية لغزة. فهي تتحمل العبء الأكبر من المساعدات، وتبقى المحور الذي لا يمكن تجاوزه في أي مبادرة لحل الأزمة.
اليوم، وبينما يتطلع العالم إلى مستقبل غزة، تظل القاهرة المثال على أن الإرادة السياسية والإنسانية قادرة على إحداث فارق، وأن مصر ستبقى قلب العروبة النابض وركيزة الاستقرار في المنطقة.