
لوبوان تي ان :
كانت الأوطان والدول ولاتزال جملة من المكونات أساسها الحاكم والمحكوم وقوانين تنظم هذه العلاقة.ومع تطور المجتمعات ظهرت وسائط لتسهيل هذه العلاقة وجعلها أكثر مرونة ونجاعة.
هذه الوسائط تتمثل في الاحزاب السياسية والمنظمات النقابية والجمعيات الإنسانية والثقافية والرياضية. وهذه مجتمعة تشكل ما يعرف بالمجتمع المدني.ويقاس عادة تخلف الدول او تقدمها بمدى حركية هذا المجتمع وثرائه وتنوعه.وهو مقياس تقاس به الحرية والديمقراطية.
في هذا المقال سنتناول المجتمع المدني في تونس في جزئه المتعلق بالجمعيات الانسانية والثقافية وسنحلل ثراءه المطلوب وتبعيته المرفوضة. في تفاعل مع أحداث الأسبوع والتي شملت تجميد نشاط لأبرز جمعيتين (جمعية النساء الديقراطيات وجمعية المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) فضلا عن تتبع العشرات من الجمعيات الاخرى لشبهات تتعلق بالتمويل والتبعية.
تعتبر تونس رائدة في هذا المجال حيث أصدر “علي باي” أمرا في الغرض بتاريخ 15 سبتمبر 1888، شرّع فيه الإطار العام لممارسة حق تكوين الجمعيات، وهو ما سمح للتونسيين بإنشاء العديد من الجمعيات الثقافية والعلمية والشبابية والرياضية وعدد منها كان لها دور حاسم في احتضان المقاومة ضدّ الاستعمار.
وبعد الاستقلال صدر القانون عدد154 لسنة 1959 المتعلق بتنظيم الجمعيات؛ والذي كان يفرض الحصول على “تأشيرة” من وزير الداخلية لتأسيس جمعية مّما جعل التضييق كبيرا على العمل الجمعياتي .وهو القانون الذي بقي معمولاً به إلى أن صدر المرسوم الجديد عدد 88 لسنة 2011 و الذي ألغى نظام “التاشيرة” لكنه فتح باب الفوضى أمام العمل الجمعياتي حيث بلغت الى حد اليوم 25 ألف جمعية ليعود الحديث و الجدل هذه الأيام على ضرورة تنقيح هذا المرسوم وتكثيف الرقابة عليها بعد حياد بعضها عن الأهداف المرسومة لها. وانخراط البعض منها في مخطط لتوطين المهاجرين الافارقة غير النظاميين بتونس . حيث تعرّف الجمعية على أنها هيكل لخدمة المواطنين ومعاضدة جهود الدولة في التنمية ولا أهداف ربحية لها و مداخيلها وجب أن تصرف بالضرورة على أنشطتها الاجتماعية .
الجمعيات في تونس
مثلما أشرنا الى ذلك من قبل يبلغ عدد الجمعيات بتونس 25ألف جمعية منها 219 أجنبية و يرتكز أكثر من ثلثها بتونس العاصمة ما يؤكّد غياب التوازن في العمل الجمعياتي بين المركز والجهات . وهذا العدد الكبير يقابله ضعف في العمل الجمعياتي وذلك بسبب أنّ أغلبها غير ناشط وعدد منها يستغلّ لأغراض شخصية أو حزبية حيث أنشأت عدد من الجمعيات لتكون واجهة لأحزاب سياسية وبنك خلفي لها يتلقى التمويلات الداخلية والخارجية بدلا عنها بحكم منع القانون التونسي للتمويل الأجنبي للأحزاب واتاحته للجمعيات.
ووفق أرقام نشرت في دراسة بعنوان “النّشاط الجمعياتي في تونس بين الميوعة التشريعيّة والضبابيّة التنظيميّة” فانّ أكثر من 70% من هذه الجمعيات، ليس لها مقرات ولا هيكلة إدارية رسميّة يمكن من خلالها الاتصال بها أو التعامل معها بشكل رسمي؛ بل مازالت أغلب الجمعيات الناشطة في تونس ”إفتراضية” وليس لها مواقع على صفحات “الواب” ولا حتى عناوين مراسلة بريدية، ولا تعرف مؤسّسات الدولة مواقعها وليس لها فكرة عن أنشطتها ولا حجم تمويلاتها أو مصادرها.
فوضى قانون الجمعيات
يتكوّن قانون الجمعيات من 49 فصلا موزعةعلى9 تعرّف العمل الجمعياتي وشروط التأسيسي وموارد التمويل واوجه الصرف واهمّ ماورد فيه هو التأكيد على أن الجمعيات مشاريع غير تجارية ولا ربحية وهو مخالف لواقع الحال لدى عدد من الجمعيات التي هدفها الأول تجميع الأموال وصرفها ذاتيا مقابل صفر نشاط أو نشاط مموّه وهو ما يفسر أن جلّ هذه الجمعيات لا تقدّم تقاريرها المالية السنوية بانتظام.
وتعدّ المادة 21 من القانون المذكور المسؤولة عن كل هذه الفوضى حيث تمّ إلغاء “نظام الترخيص” المسبق وتعويضه بـ”نظام التصريح” أو الإعلام، وإلغاء الاختصاص التقديري لوزارة الداخلية، حيث ينص الفصل العاشر (10) من هذا المرسوم على أن “يخضع تأسيس الجمعيات إلى نظام التصريح”
أمّا الفصل الأخطر فهو الذي يمنح حقّ الأجانب تأسيس جمعيات بتونس وهو الفصل 8 الذي تشير النقطة الأولى فيه الى ” لكل شخص طبيعي، تونسي أو أجنبي مقيم في تونس، حق تأسيس جمعية أو الانتماء إليها أو الانسحاب منها وفق أحكام هذا المرسوم.” فهذا الفصل الغريب وجب تنقيحه فورا فحتى أعرق الدول في الديمقراطية لا تسمح بتأسيس جمعيات من طرف أجانب. وكذلك الفصل 20 الذي ينص على” الجمعية الأجنبية فرع جمعية مؤسسة بموجب قانون دولة أخرى. يتأسس فرع الجمعية الأجنبية في تونس وفق أحكام هذا المرسوم.” فما يلاحظ في تونس هو انتصاب جمعيات أجنبية على أنها فروع لجمعيات أم في بلدانها لا نشاط لها ولا وجود ظاهر فالهدف منها هو تبييض الأموال واستغلال القانون التونسي للجمعيات في هذا المجال.
كذلك يعتبر الفصل 35 والذي ينصّ على انه” يحجر على الجمعيات قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات ديبلوماسية أو عن منظمات تدافع عن مصالح وسياسات تلكم الدول.” وهو من أكثر الفصول التي لا تطبّق من طرف الجمعيات التي تحمل أجنداتها الخاصة وتراكم الأرباح على حساب المصلحة العامة وخدمة المواطنين. ويظهر هذا خاصة لدى الجمعيات المهتمة بالشأن السياسي والثقافي أو ما عرف بدعم الانتقال الديمقراطي بين سنوات 2011 و2019 وهو الشعار الفضفاض الذي عبره تسللت التمويلات الخارجية وكذلك الجمعيات الأجنبية.
الشيطنة ليست الحل
رغم ما تقدّم وما تعرّضنا له من فوضى العمل الجمعياتي في تونس وحياد عدد كبير من الجمعيات عن أنشطتها الرئيسية وعدم نشاط عدد أكبر من الجمعيات فانّ العمل الجمعياتي بتونس يعدّ مفخرة للتونسيين في محيطهم الإقليمي لما قدمته عدد من الجمعيات والمنظمات المحترمة للمواطنين بمختلف فئاتهم وأعمارهم. فالهلال الأحمر يعدّ مرجعا في العمل الجمعياتي وأقدمها تأسيسا في المنطقة العربية حيث تأسست خلال الحرب العالمية الثانية و. بعد الاستقلال تم إعادة تأسيسها سنة 1956. وتنتمي جمعية الهلال الأحمر التونسي إلى الحركة الدولية لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر. وهي تتعامل مع جمعيات تونسية في اطار الشفافية.
كما أن عددا هاما من الجمعيات تقدّم يوميا خدمات للمواطنين و للأطفال و للمعوقين ولها مقارّ معلومة وعناوين واضحة وتقدّم تقاريرها المالية بصفة منتظمة وتنظم جلساتها الانتخابية وهي محل ثقة من طرف السلطات .
الثراء والاثراء
كما ذكرنا فالجمعيات هي هياكل غير ربحية هدفها خدمة المواطنين. وكل حياد عن هذه الغاية يخرجها من العمل الجمعياتي ويعرّضها المساءلة القانونية. كما أنه من الضروري التفريق بين الجمعيات الوطنية التي مصادر دخلها وصرفها واضحة و لا تعتمد التمويل الأجنبي وأنشطتها موجهة للتونسيين دون غيرهم و بين الجمعيات الموجّهة و المشبوهة. وعلى لجنة التحاليل المالية ومختلف البنوك التونسية العمل على مزيد التحرّي عن الأموال التي تحوّل الى الجمعيات ومطالبتها بأوجه صرفها والبرامج الوطنية التي أنجزتها.
ومن الحتمي تنقيح قانون الجمعيات وتكثيف الجانب الرقابي الذي فيه حركة الأموال وعن العلاقات العامة والأنشطة. حيث أن عددا كبيرا من هذه الجمعيات نشاطه الوحيد جمع التبرعات وتلقّي التحويلات من الداخل والخارج. فضلا عن أن عددا من اصحاب الجمعيات تخلوا عن الثراء في البرامج والخدمات وامتهنوا الاثراء عبر جمع التبرعات والهبات وحتى تبييض الأموال.
الرهان الحقيقي اليوم في تونس ليس في عدد الجمعيات، بل في جودتها ونزاهتها وشفافيتها. فالجمعيات هي المرآة التي تعكس وعي المجتمع ومدى التزامه بالمصلحة العامة، وهي القادرة على أن تكون قوة دعم للدولة وشريكًا في التنمية إذا التزمت بمهامها الأساسية: الخدمة، لا الربح والبناء، لا التوظيف والمصلحة العامة، لا الولاءات الخارجية.
لقد آن الأوان لتفعيل نظام الرقابة، التحقق من الشخصيات التي تديرها، من مقراتها، كشوفاتها المالية ومصاريفها، للكشف عن التمويلات وتحديد المسؤوليات.. فالجمعيات التي اختارت طريق الشفافية والمصداقية هي ثروة وطنية يجب حمايتها ودعمها، أمّا تلك التي حادت عن أهدافها فمكانها الطبيعي هو المساءلة والمحاسبة. فالإصلاح لا يكون بعدد الجمعيات، بل بنوعها، وبمدى قدرتها على أن تكون رافعة للمجتمع لا وسيلة للإثراء غير المشروع
لا يعذر الجاهل يجهله..
معلوم أنه من أكبر الاخطاء التي تقع فيها الجمعيات قبول التمويلات من أي جهة أجنبية كانت.
وقد تتورط بعضها في قبول تمويلات من منظمات وهيئات مشبوهة أو لها أجندا معادية للدولة وان كانت تحت يافطات جميلة كالديمقراطية.
وبالتالي فعلى الجمعيات التحقق جيدا من مصادر التمويلات.وهذه عملية لابد من القيام على دقتها فلهذه الجهات مواقع ومنصات واضحة وتعلن فيها عن مواقفها وافكارها.وبالتالي لا يعذر الجاهل بجهله وعلى الجمعيات أن تراقب نفسها بنفسها وتكون شفافة للجميع.
فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تسيء بعض جمعيات مخالفة للقانون لجمعيات ومنظمات أخرى معاملاتها شفافة ومصادر تمويلها ايضا. وتقدم في خدمات إنسانية واضحة ومعلومة.
بقلم ريم بالخذيري –رئيسة المنظمة الدولية لحماية اطفال المتوسط-





