لوبوانى تي ان :
كتابة التاريخ هي بكل تأكيد مسؤولية يصعب على الكثيرين تحملها و هو ما جعل كل الدول تدرس التاريخ ، أحداثا و علما ، لأن الحاضر هو لحظة عابرة فالمستقبل هو الهدف و الأساس و لا يمكن بناء المستقبل بمعزل عن العودة للتاريخ و لا يمكن لمن لم يتحمل على أفضل وجه مسؤولية الحكم و من خانته شجاعته في لحظات المواجهة أن يكون صاحب مصداقية في ما يكتبه من ” تاريخ ” بالعودة إلى “ذاكرته”خاصة إذا كانت هذه الذاكرة ضعيفة و يوجهها آخرون. نسوق هذه الملاحظة حتى لا نمنح أشياء عابرة أكثر مما هي جديرة به من إهتمام و حتى لا ننخرط في ما يسعى إليه البعض من خلال الحديث في هذا الظرف عن الباجي قائد السبسي من تشتيت التركيز على اللحظة الحالية و التي تتميز بتعدد الرهانات و المخاطر و بفشل كبير و غير مسبوق في إدارة الشأن العام.
لا يختلف متابعان في أن الباجي قائد السبسي قد ارتكب أثناء رئاسة الجمهورية أخطاء و أنه من الضروري الوقوف عند هذه الأخطاء و عند أسبابها حتى لا تتكرر و لكن هناك فرق بين ارتكاب خطأ و ارتكاب خطيئة أي القيام بأخطاء لا يمكن علاجها بسهولة و تمثل ضربا للاسس التي تقوم عليها المرحلة سياسيا كما هو الحال إذ وقع إلغاء المؤسسات و تضخم الميل لاحتكار السلطة و تجلى خاصة ميل لضرب الحريات علاوة على التخبط في إدارة الشأن العام. الباجي قائد السبسي كان أول من تصدى ، بالأساليب الديمقراطية و اعتمادا على وعي الشعب التونسي للانحرافات التي أخذت تظهر في مسار الثورة التي اعتبر أنها فرصة لا يجب ان تضيع من أجل مصالحة تاريخية بين أبناء الشعب من ناحية و بين الشعب و الدولة من ناحية أخرى و هي الفكرة التي كانت وراء تأسيس نداء تونس.
تحرك الباجي قائد السبسي من منطلق الإيمان بالديمقراطية و الشعور بالمسؤولية تجاه تونس و شعبها و الولاء للدولة الوطنية التي ناضل من أجل إقامتها ضد الإستعمار الفرنسي و من أجل إصلاح مسارها بمعارضة الحبيب بورقيبة و زين العابدين بن علي و ضد حركة النهضة و الإسلام السياسي لأن النهضة سعت جاهدة لتغيير نمط الدولة و المجتمع.
و لا شك ان تعارض مشروع حماية الدولة الوطنية الذي جسده الباجي قائد السبسي يختلف عن الأهداف التي يتحرك من أجلها الاسلام السياسي و هو ما يفسر انخراط الباجي قائد السبسي دون حسابات في مشروع التوافق السياسي و ما لقيه من بعض الفاعلين في حركة النهضة من جحود و من نقص الجدية في تكريس التوافق الحقيقي و الذي يبقى ضرورة تاريخية لتجاوز الوضع الحالي المفتوح على احتمالات غير مطمئنة.
كان الباجي قائد السبسي يسعى لإدماج حقيقي للإسلام السياسي في الدولة الوطنية و إلى ” تونسته” بشكل حقيقي و هو ما لم يدرك أهميته بعض قياديي حركة النهضة فوقع ضرب التوافق من الداخل و هو ما فتح الباب أمام أخطاء أوصلتنا إلى الوضع الحالي. و سيحفظ التاريخ أن الباجي قائد السبسي أبدى لما كان رئيسا للجمهورية انتقاداته على الدستور و النظام السياسي دون أن يحرض عليه أو ينقلب عليه و أنه سعى جاهدا لتوحيد التونسيين و التونسيات و تحرك خارج تونس من أجل الدفاع عن تونس و مصالحها و لم يوظف القضاء لتصفية حساباته السياسية .و سيسجل التاريخ دلالات جنازة الباجي قائد السبسي التي كانت تكريما شعبيا لرجل كرس حياته لبلاده و شعبها. كانت الجنازة اعترافا بالجميل و كرست التقاءا رمزيا غير مسبوق بين الشعب و الدولة في مناسبة مماثلة و كانت أيضا إشارة إلى تخوف على الدولة الوطنية التي أسسها الحبيب بورقيبة و حافظ عليها زين العابدين بن علي قبل أن يفشل في صونها بالشكل المطلوب و انقذها الباجي قائد السبسي لتعود حاليا محاولات استهدافها و ضربها و لكن الدولة الوطنية هي بالأساس مشروع مجتمعي يصعب أن يموت و سيتجدد و سيكون لارث الباجي قائد السبسي موقعه في عملية تجديد المشروع الوطني.
عبد الرؤوف الخماسي