أراء

الاستراتيجية الامريكية الجديدة للأمن القومي بين الفرص والتحديات

"أيُّ أفقٍ للشمال الافريقي بين انكفاء الولايات المتحدة وتصدّع أوروبا"

بقلم أ. حامد بن إبراهيم

استشاري في العلاقات الدولية

***

تمرّ المنطقة المغاربيّة – من ليبيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً – بلحظة حرجة تُشبه من حيث أثرها الاستراتيجي التّحولات الكبرى التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. فمع صدور الاستراتيجية الدفاعية والأمنية الأمريكية الجديدة، يتأكد أن واشنطن قررت التراجع التدريجي عن سعيها الدائم للاضطلاع بمسؤولية “الإشراف” الأمني العميق على المنطقة، وأن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لم يعودا محور اهتمامها الأول، بل تحولا إلى فضاء تعاون محدود، تُعرّف فيه واشنطن بدقة ما يعنيها وما لا يعنيها على قاعدة “المصلحة المرحليّة” بقطع النظر عن مدى الانسجام الأيديولوجي مع الأنظمة وطبيعة خياراتها السياسية والاجتماعية الداخلية.

وإذا استمر هذا التوجه بعد ولاية الرئيس ترامب، يمكن ان يُفتح الباب أمام مرحلة جديدة تُفرض فيها على الدول المعنية مسؤولية بناء توازناتها بنفسها، وسط عالم شديد الاضطراب يتّجه نحو التعددية القطبية، في غياب تامّ لأي ثقل استراتيجي للمجموعة العربية التي قد تضطر للقبول “بالوصاية الأعجمية” التركية الإيرانية الباكستانية؛ خاصة بعد تبدد أفق ما كان يسمّى – ولو بالتّمني والتّلويح الخَطابي- الأمن القومي العربي، وهذا التحوّل يعيد رسم المشهد المغاربي والشمال الافريقي برمّته.

فالمملكة المغربية على سبيل المثال، التي استفادت لسنوات من محور واشنطن – تل أبيب ومحور الأنظمة العربية الملكيّة، مدعوّة اليوم للانتباه الى أن هذه الرّافعة تهتز وتفقد الكثير من قوة تأثيرها، بعدما تراجعت قدرة الولايات المتحدة على ممارسة الضغوط الإقليمية، وأصبح الدّاخل الإسرائيلي يبتلع قدرة تل أبيب على لعب أدوار خارجية وازنة، خاصة بعد تبخر اسطورة الردع والحصانة الجوية امام الصواريخ الإيرانية واليمنية. ولا حاجة لتحليل مطوّل لإثبات دقّة تسمية “الطّوفان” لما حدث في السابع من أكتوبر، فمعلوم انّ مفاعيل صدمة الطوفان -أو التسونامي- الأولى ليست بالضرورة اقوى من ارتداداته التي يستغرق تجاوزها عشرات السنوات.

وفي المقابل، تبدو الجزائر، رغم ثقلها الديمغرافي والجغرافي والعسكري وما حققته من إنجازات في بنيتها التحتية، تواجه تحديات من زاوية مختلفة، فحجم الصناعات العسكرية الثقيلة المحدود والاعتماد على منظومات التسليح المستوردة يحُدُّ من الاستقلالية الاستراتيجية وقد يؤثر على المردودية العملياتية خلال أي مواجهة محتملة خاصة غربا وجنوبا؛ في عالم يتجه نحو حروب تكنولوجية يصعب الصمود فيها مع استيراد الأسلحة، وما تعانيه اكرانيا منذ ثلاث سنوات خير مثال على ذلك. ولا يمكن ان تتجاوز الجزائر هذا التحدي الا بالعودة الى “الاستثمار العمومي” في الصناعات العسكرية عالية التقنية والتكنولوجيا على غرار النموذج الإيراني والروسي والصيني، لان القطاع الخاص، في المنطقة العربية عموما، لم يرتقي كنظيره التركي لمستوى “راس المال الصناعي المبادر” وبقي غارقا في الريع والمضاربة.

كما تواجه الدولة الجزائرية تحدياً داخلياً معقدا، يتعلق بالموازنة بين ثراء التعدد اللغوي والثقافي، وبين خطر تحوّل الخصوصيات الثقافية إلى مشروعات تفكيك وانفصال، خاصة في منطقة القبايل. فالجزائر، التي نجحت في استرجاع أنفاسها بعد سنوات المواجهة مع الإرهاب، قد تواجه صعوبات كبيرة إذا فشلت جهود التأكيد على ثوابت الهُوية الجامعة في ادماج الجميع في الدولة الوطنية الضامنة للمساواة والتّمتع بالحقوق في إطار التنوع.

وقد أصبح جليا لدى كل المهتمين بشؤون المنطقة أنّ التحديات ليست داخلية فحسب، كما ظهر في المثالين السابقين، فليبيا المنقسمة بين سلطتين وميليشيات متعددة الولاءات تحولت إلى خاصرة رخوة لكل دول الجوار. وأزمة السودان تتدحرج ككُتلة نارٍ تهدد حدود الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا معاً. فالسودان ينزلق نحو انهيار شامل يتسبب في موجات نزوح وعدم استقرار يمتد من البحر الأحمر إلى ليبيا، ويضع الضفة الجنوبية للمتوسط في قلب عاصفة لا هوادة فيها. ومنطقة السّاحل تواصل الانحدار نحو الفوضى، مما يضاعف مشكل هجرة الافارقة الى شمال افريقيا؛ الذي انتقل من مرحلة “المغامرين الذكور” الراغبين في العبور الى أوروبا، الى مرحلة الهجرات الاستيطانية المنظمة. والاستفهامات تضل مفتوحة حول حقيقة الاجندات التي تستهدف ديمغرافيا الدول المغاربية.

ووسط هذا الاضطراب العربي-الإفريقي، تبرز مفارقة أخرى لا تقل خطورة: أوروبا التي كانت لعقود مركز جذب للمغاربيين، تعيش ركوداً اقتصادياً وصعوداً غير مسبوق لليمين المتطرف، ما أدى إلى تضييق ممنهج على المسلمين والجاليات المغاربية. ومع هذا التراجع تتشكل ملامح “الهجرة العكسية”، حيث قد نرى الآلاف من المغاربيين يفكرون في العودة إلى بلدانهم الأصلية، بعد أن تضاءلت فرص العمل واشتد الضغط العنصري. وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد تجد دول المغرب العربي نفسها أمام موجة ديمغرافية من العائدين، تحتاج معها إلى إقلاع اقتصادي سريع قادر على استيعاب ملايين الأشخاص الذين ستدفعهم أوروبا نحو الجنوب. وهذا التحدي الجديد يجعل مسألة بناء فضاء اقتصادي-أمني مغاربي أكثر من ضرورة، بل شرطاً للبقاء.

غير أن الرؤية الاستراتيجية لشمال إفريقيا لا تكتمل دون إدراج مصر في قلب المعادلة، لأن القاهرة نفسها تقف عند مفترق طرق وجودي. فمصر تتحمل شرقا أعباء المواجهة على حدودها مع الكيان الاحتلالي لفلسطين، ومحاصرة من الجنوب بالأزمة السودانية، وتتعرض لابتزاز استراتيجي في ملف المياه عبر سد النهضة؛ كما أنها تتضرر مباشرة من النزعة الانفصالية التي تتشكل في شرق ليبيا؛ تحت تأثير الفاعلين المحليين والدوليين. ولأن الشرق الليبي هو المجال الحيوي لمصر، وهو يمثّل المدخل الطبيعي لإعادة بناء الدولة الليبية، فإن أي محاولة مغاربية – خصوصاً من تونس والجزائر- لتسوية الملف الليبي ستكون غير مكتملة ما لم تُشرك فيها القاهرة، والجهود يفترض ان تتجاوز مستوى التنسيق والتشاور الثلاثي الى تنفيذ تصوُّر مكتمل الأركان لإنهاء الازمة. فالتوازن في ليبيا لن يتحقق من الغرب فقط، ولا من الجنوب وحده باستقرار السودان والساحل، بل من استثمار قدرة مصر على التأثير في القوى الفاعلة في برقة طواعية او قسرا. ولا بد من العمل على أن استقرار مصر جنوباً من خلال تسوية السودان شرط ضروري لاستقرار ليبيا وتونس والجزائر.

بهذا المعنى، يصبح التعاون الاستراتيجي بين دول المغرب العربي ومصر ضرورة امن قومي لا ترفاً دبلوماسيّا. فالقاهرة تمثل ثقلاً سكانياً وعسكرياً، وتملك مداخل الضغط في الشرق الليبي، بينما تمتلك الجزائر وتونس والمغرب شرعية الانتماء المغاربي وقدرة سياسية على العمل في الغرب الليبي. والتنسيق بين الجبهتين ليس فقط مفتاحاً لتوحيد ليبيا، بل أساسياً لمنع انتقال الفوضى إلى شمال إفريقيا كله. أما ترك مصر خارج هذه المعادلة فهو تركٌ لنصف المشهد فارغاً، وإيحاء بتجاهل عامل جوهري لا يمكن لأي مبادرة مغاربية أن تنجح بدونه.

ولا يجب الاستهانة بموقع ودور موريتانيا في العديد من المعادلات، فنواكشوط تملك مفتاح العبور للعالم الخارجي والتموين لدولة مَالي التي تعتبر جسرا لأي تسوية في النيجر وبوركينافاسو وتشاد. والجزائر وموريتانيا مدعوتان للتنسيق بفعالية للدفع نحو حل الازمة الداخلية في مالي على أساس ضمان حقوق الطوارق والعرب مقابل وحدة التراب واستقرار السلطة المركزية في باماكو. ومن غير المعقول ترك هذه الملفات عرضة لتدخلات الغرباء عن المنطقة والمضاربين في سوق الجيوسياسيا، خاصة الدول التي لا تملك من مقومات القوة الا الذراع المالي والإعلامي.

وهكذا نخلصُ الى أن بناء فضاء مغاربي مستقر لم يعد مجرد مشروع وحدوي أيديولوجي، من متحف توجّهات ستّينات القرن الماضي، بل أصبح شرطاً لاحتواء تبعات الانسحاب الأمريكي، والتصدع الأوروبي، والفوضى القادمة من الساحل، وانهيار السودان المحتمل، والهجرة العكسية المتوقعة، ومحاولات تقسيم ليبيا، وتراجع جدوى الرهان على التحالفات التقليدية. العالم لم يعد كما كان، وطبيعة مآلاته مرتبطة بمدى حكمة وبراغماتية الفاعلين فيه.

وفي القرن الحادي والعشرين لم تعد القوة فقط لمن يملك السلاح، بل لمن له القدرة على بناء شراكات إقليمية تُحوّل الجغرافيا إلى منصة تكامل لا خط تماسٍ يستنزف الامكانيات ويكبّل الطاقات ويحرِف الجهود نحو الرّدع، عوض التركيز على البناء والتنمية. وفي زمن سهُل فيه التلاعب بمزاج الشعوب، من وراء شاشات الحواسيب، لتثويرها ضد اوطانها عبر تسميم فضاءات التواصل الاجتماعي، أصبح استعمال الموارد في المشاريع التنمويّة، عوض الانفاق على التّوقّي من نزاعات الجوار، ضرورة لتقوية الجبهة الداخلية وتحقيق المناعة الشاملة ضد الاختراق.

وختاما، يمكن القول ان دول المغرب العربي ومصر أمام اللحظة التي تفرض تجاوز الحسابات القديمة، وإعادة هندسة الفضاء الاستراتيجي بعقل جديد قادر على استشراف المستقبل عوض التقوقع في السجالات الدُونكِشوتيّة الماضوّية سواء العقائدية أو الهُويّاتيّة. فإما أن تتقارب الدول لبناء صيغة تعاون حقيقية تعيد التوازن إلى شمال إفريقيا، وإما أن تُترَك لتواجه وحدها رياح التمزق التي تهبّ من الجنوب والشرق والشمال معاً. إنها لحظة يفتح فيها التاريخ نافذة قد تكون الأخيرة؛ فإما أن تُغتنَم، وإما أن تُغلقَ إلى وقت طويل. وللتذكير، نافذة تلبية نداء حنّبعل في حربه مع روما تم تجاهُلها وبقيت مغلقة لسبع قرون!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى