لوبوان تي ان :
يُقال، أن مياه الطوفان الإلهي جاءت لتطهير البشرية من خطاياها كخطوة ضرورية لنشوء أخرى صالحة. أما طوفان الأقصى فهو من صنع البشر، لكنّه يحمل أيضًا بعضًا من معاني التطهير لما يشوب عالمنا من اضهادٍ، واستغلالٍ، وانحلال القيم والمبادئ، هذا عدا الحروبٍ المدمّرة والمهدّدة لحياة الإنسان على وجهه الكرة الأرضية.
لن أتعرّض، في هذه المقالة، لتقويم دور المقاومة تخطيطًا وأداءً، بالرغم من الأهمية القصوى لهذا الأمر، فقد نأتي على ذلك في مناسبة أخرى. لذلك سيتم التطرُّق للتغييرات التي حصلت في (أطراف) عملية الصراع العربي الصهيوني في فلسطين، وبالتالي تأثير هذا الحدث الإستثنائي على مستقبل الصراع. وسيتم التركيز على تداعيات ذلك على الكيان الصهيوني ومستقبله. وفي الخلاصة سيتم شرح كيف أن إسرائيل تسير صعودًا نحو الهاوية، نحو حتمية الانتحار.
التهديد الوجودي والدفاع عن النفس
سلبت الحركة الصهيونية، بالتعاون مع الغرب الاستعماري، أرض فلسطين وارتكبت المجازر بحق شعبها الأصلي، وطردت الأغلبية الساحقة منه، وأقامت كيانها الذي حاز على الإعتراف الدولي بسرعة قياسية. بعد ثماني سنوات شنت إسرائيل عدوانًا ثلاثيًّا مع فرنسا وبريطانيا ضد مصر، وفي عام 1967 احتلت الضفة الغربية، التي كانت تقع تحت سيادة المملكة الأردنية، وقطاع غزة الواقع تحت الحكم المصري وسيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. هذا كان في في طفولتها ومراهقتها، ومع نضوجها مثّلت تهديدًا لكل من لا يمتثل لما تعتبره متطلّبات أمنها.
ويتلخّص ذلك في الحفاظ على التفوّق الإسرائيلي ومنع أية دولة، في الإقليم، تفكّر في انتهاج سياسة مستقلة إنطلاقًا من حق الشعوب في تقرير مصيرها ومن مبدأ التكافؤ في العلاقات. فبنظر إسرائيل، كان وما زال، على المحيط العربي أن يبقى ضعيفًا ومتخلّفًا، بينما يكون من حقّها امتلاك كل عناصر القوة المتطورة العسكرية والاقتصادية والعلمية. حتى أن الأمر تجاوز المحيط العربي ليصل الى بلدانٍ بعيدة. مثلًا، اعتبرت اسرائيل أن امتلاك باكستان القنبلة النووية خطرًا يهددها رغم علمها أن الأمر له علاقة بالصراع الهندي الباكستاني.
تنتهج إسرائيل هذه السياسة بذريعة التهديد الوجودي لكيانها، ولذلك تعتبر أن من حقّها منع أية دولة، لا تخضع لمتطلّباتها الخاصة، من امتلاك أيٍّ من عناصر القوة. ولتحقيق ذلك كانت تقوم اسرائيل بالضربات الوقائية لكل هدف تعتبره تهديدًا لها بحجة الدفاع عن النفس.
لم نعرف، في التاريخ، دولة تبني سياستها مع الكيانيات الأخرى على اساس التهديد الوجودي الدائم لها، وبالتالي تبرير ضرورة تفوّقها على الآخرين وحقّها في شن الضربات الاستباقية والعدوانات بحجة الدفاع عن النفس. صحيحٌ أن الخلافات على الحدود بين الدول ظاهرة طبيعية، لكننا لا نعرف خلافًا على الوجود إلّا في حالة إسرائيل. وبما أن الأمر كذلك، فهذا يعني أن إسرائيل ترى نفسها دولةً ليست كغيرها من الدول! بكلام آخر، هي تعرف بقرارة نفسها أنها دولة غير طبيعية، وأن الطبيعة ما زالت قابلة لأن تلفظها.
الغريب أن شعور “اسرائيل” بالتهديد الوجودي لم يتلاشَ بالرغم من الحظوة التي نالتها لدى النظام الدولي، وخاصة لدى الدول المهيمنة على هذا النظام، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة. فقد حازت اسرائيل على اعتراف كل الدول تقريبًا، بمن فيها دول عربية رئيسية، وبعضها أقام تحالفات استراتيجية معها. أما التي لم تعترف فقد أعطى بعضها إشارات مهمة لجهوزيتها للحاق بالركب وبدأت بنسج العلاقات غير الرسمية في مجالاتٍ عديدة. أمّا البعض الآخر فقد كان مطلبها تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وخاصة القرارين 242 و338 اللذين لا يمثّلان تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل. وأخيرًا، لا بد من الإشارة أن الوهن العربي، في زمن ما قبل “الطوفان”، قد بلغ مداه الأقصى وخاصة بعد الشلل الذي خلّفه “الربيع العربي”. مع كلّ هذا لم يكُفّ الكيان الصهيوني عن ترداد نغمة التهديد الوجودي ليبرّر ضرورة إبقاء حظوته لدى الغرب وتبرير اعتداءاته على الآخرين بحجة الدفاع عن النفس. إنها مهزلة أن يُعطى الاحتلال حق الدفاع عن النفس بينما يُحرَم الواقع تحت الإحتلال من هذا الحق.
الصعود نحو الهاوية
كانت إسرائيل، قبل “طوفان الأقصى”، تسير بثقة عالية صعودًا نحو “المجد” الذي حلم به قادتها. كان آخر فصلٍ في هذا الحلم ما عبّر عنه نتانياهو في الأمم المتحدة بشأن رؤيته لخارطة المنطقة الجيوسياسية الاقتصادية المستقبلية حيث تحتل اسرائيل المركز فيها، وتكرّس هيمنتها و”مشروعيتها” إلى الأبد. وبينما كانت اسرائيل تضع اللمسات الأخيرة للشروع بتنفيذ حلمها جاء الطوفان ليستفيق قادتها من حلم اليقظة الذي كانوا يعيشونه، فعلا صراخهم بالتهديد الوجودي إلى حدودٍ غير مسبوقة. إذ، ما كان لإسرائيل أن تتصوّر أن يأتي يومٌ يسقط فيه الأمن الاستيطاني، الذي بُنِيَت عليه، سقوطًا مروِّعًا، وأن تحقّق المقاومة خرقًا كان خارج كل حسابات المعنيين الصهيونيين.
لقد جاء السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليكشف حقيقة هذا الكيان لمن كان يجهلها، وليُخرِجَ كل العفن الذي بداخله. فالحديث الدائم عن التهديد الوجودي لم يكن سوى تعبيرٍ عن حقيقةٍ يدركها صانعو الكيان، بأن منشأ كيانهم غير طبيعيٍّ ، وأن استمراره يرتبط بعلاقات مشوّهة تناسب طبيعته المشوّهة. فالكيانات الاستيطانية الاصطناعية التي تنشأ على ارضِ الغَيْر لا تنجح إلا بإبادة السكان الأصلين وامتلاك القدرة على إحلال العدد الكافي من المستوطنين بحيث لا يقوى من تبقّى من السكان الأصليين أن يشكّل أي تهديد مستقبلي لها. هذا ما حصل في القارتين الأميركيتين وفي استراليا ونيوزلندة. فحيث لم تتوفّر هذه الشروط اضطر المستوطنون العودة الى بلادهم الأصلية أو الرضوخ لشروط أهل البلاد (مثال جنوب أفريقية). هذا ما أدركه إصحاب المشروع الصهيوني بعد إنشاء كيانهم في فلسطين. فقد واجهوا عقبات مهمّة أرّقتهم ودقّت مضاجعهم رغم ما بدا من نجاحٍ باهر. فالشعب الفلسطيني، كما تبيّن لاحقًا، أنه عصيٌّ على الإبادة، وأظهر قدرة عالية على تجديد نفسه وتجديد قواه الحية، وبالتالي قدرته على البقاء وتخطّي التهديدات الوجودية. إضافة لذلك، كانت لدى هذا المشروع أزمة تتعلّق بالعدد القليل لليهود الممكن توطينهم، بخلاف المشروع الغربي الذي اعتمد على سكّان أوروبا الكثيري العدد، وكذلك على آخرين من افريقيا وأسيا.
لقد جاء الطوفان ليجرف معه كل ما هو مصطنع في هذا الكيان ليظهر على طبيعته الإجرامية بلا حدود. هذه الطبيعة التي فاجأت كثيرين في الغرب، وأحدثت تغييرًا وازنًا في الرأي العام يُتَوَقّع أن يكون له تأثيرًا كبيرًا على علاقات إسرائيل مع الغرب. فالأمر تجاوز مسألة دعم أحد طرفي الصراع العربي الصهيوني، إذ تحوّل إلى قضية مهمة في الصراع المحلّي (فوز جورج جلاوي في الانتخاب البرلمانية الفرعية في مدينة مانشستر الإنكليزية) لأن إسرائيل قد باتت بنظر شريحة واسعة من الغربيين تمثّل عبئًا إقتصاديًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا عليهم ويجب التحرّر منه.
ساهم طوفان الأقصى في كشف حقيقة اسرائيل الفاشية لدى الرأي العام الغربي. والفاشي إذا هاج لا يعرف إلا نحر كل من يقف في طريقه أو الانتحار. إنها ساعة الحقيقة، ساعة إظهار إسرائيل كل مواهبها الدموية، ساعة الصعود الى قمة الإجرام التي ستهوي بعدها حتمًا.
- بقلم الدكتور حسين قاسم- كاتب فلسطيني مقيم بكندا –