
أ. حامد بن إبراهيم/ استشاري في العلاقات الدولية
***
بعد اغتيال السّيد حسن نصر الله المواجهة مع “النّصرُاللاّهيّة”
مضت سنة على اغتيال السيد “نَصَر اللهْ”، الذي وصفه نتنياهو “بمحور المحور”، وكل المؤشرات تشير الى ان هدف إسرائيل بالقضاء على جبهة الرفض في لبنان وفي المنطقة لم يتحقق، وخيبتُها مضاعفةٌ إذ وقعت في مأزق “النّصرُاللاّهيّة “. فكل جهود إسرائيل منذ 2006 لتحضير الضربة القاتلة لحزب الله، اسفرت عن آلاف الجرحى والشهداء وعن تحييد الصف الأول من القادة واغتيال السيد حسن نصر الله، لكنّ جبهة المقاومة في لبنان بكل أطيافها (إسلامية ومسيحية ويسارية) ما زالت ثابتة، وتُعاهد على مواصلة النّهج. وفكرة التضحية قد تكرّست إثر الاغتيال عند ملايين الاحرار، كسبيل وحيد لفرض الكرامة والوفاء للشهداء ولتأمين العّزة للأجيال القادمة.
الغرب الموسع بما فيه إسرائيل، استثمر أكثر من ثلاثة عقود في عقول الشباب -العربي والاسلامي والعالمي- لحَرفِه عن القضايا المصيرية التي تَهُمّ الإنسانية قاطبة، ولم يحصد الا الصّلابة في المواقف والإصرار على المواجهة. وكل ما استُحدِث من قنوات اتصالٍ لتكريس التفاهة، تحوّل لآلياتٍ للتعبئة والتوعية ولنشر ثقافة الرفض. فإن كانت المخابرات الامريكية، باغتيال تشي غيفارا اليساري ونشر صورته، قد حولته الى ايقونة لا تغيب عن أي تحرك احتجاجي عبر العالم؛ فقد تحول “نصرُالله” باغتياله الى ايقونة للمستضعفين في كل انحاء العالم، بعيدا عن اي ارتباط ديني بالإسلام او أي تقارب مذهبي مع الشيعة. ومن المُلفت للانتباه أن تُرفع صور “السّيد” كما يحلو للبنانيين الاختصار، جنبا الى جنب مع غيفارا في أمريكا اللاتينية وفي شوارع نيويورك ولندن وغيرها من مدن الغرب، التي عَمَّتها الاحتجاجات ضد إسرائيل منددةً بجرائمها ضد الإنسانية وبالإبادة التي تقترفها امام عدسات الكاميرا، ومطالبةً الحكومات بالتحرك الجدي لإيقاف المجازر.
بالفعل، يمكن القول ان استشهاد السيد حسن نصر الله قد غَيّبه جَسديا، الا ان صِحَّة طروحاته وتحاليله حول خطورة كيان الاحتلال ومشاريعه على كل المنطقة قد تكشّفت بجلاء خلال السنتين الماضيتين. والاحداث صَدّقَت مقولات مركزية، كان يرددها مثل “الربح ضد إسرائيل يكون بالنقاط” و “الكيان يتفوق في القتل لكنه غير قادر على القتال” و” إيران سوف ترُد وسيكون الردُّ مُوجعا”. وباستحضار الوضع خلال السنة الماضية، نصل الى استنتاجات تصُب حُكمًا في المقولات السابقة. وفيما يلي بعض النقاط التي يمكن من خلالها فهم ما يجري، والوقوف على استعصاء الأمور بالنسبة لإسرائيل، رغم حجم الدّمار الذي تُحدثُه في المنطقة.
إيران من الحصار النووي الى التفوق النَّانَوي
إسرائيل كانت اول مستفيد من الحرب العراقية الإيرانية، فمُرتكزات أمنها الاستراتيجي تقوم على اضعاف الدول الوازنة في الإقليم. الا انّ حصار الأربعة عقود دفع إيران للاعتماد كليا على الذات، وأصبح نظام طهران من القلائل المكتفين داخليّا في اغلب المجالات، وخاصة في التّسليح والغذاء والدّواء. فضلا عن امتلاك إيران لاقتصادٍ لا يعتمد على الخدمات الموجهة للتصدير، والسياحة الخارجية تلعب دورا هامشيا في مداخيل الدولة. فخلافا لتركيا، بإمكان إيران الصمود في حرب طويلة، مستفيدة من انغلاق اقتصادها وعمقها الجغرافي الاستراتيجي، كما تجلى خلال حرب 12 يوما مع إسرائيل. معضلة اسرائيل مع إيران هو انقلاب الكيد على الكائدين؛ فالحصار تحول من آليّة ناجحة للحرب، كما تم مع العراق، إلى حافزٍ لتعبئة الموارد وبناء مُقدرات الصمود في استقلالية تامة عن الخارج.
وكان يفترض إثر اسقاط بغداد في 2003، أن تصبح إيران بين فكّي السّيطرة الاطلسية، أفغانستان شرقا والعراق غربا؛ لكنّ طهران لم تضعُف بفضل قدرة النظام على تثمين ورقة الولاء الطائفي للشيعة في العراق، والاستفادة من الشيعة في أفغانستان والتواصل مع طالبان. بل بالمقابل، تم استغلال الحضور الأطلسي في الجوار المباشر، لاستنزاف القوى الغربية ودفعها للانسحاب المُهينِ من كابول، والخروج من العراق ولو على مراحل. وإنّ عدم نجاح الإطباقِ على إيران، ونجاحها في تقوية حُلفائها في الإقليم، في شكل دائرة بارود حول إسرائيل، يُعّزز الموقع الجيوسياسي لإيران ويقوّي قدرة القوى الفلسطينية واليمنية واللبنانية على الصمود.
امّا المشروع النووي الإيراني فحَقّق هدفه الأساسي، المتمثل في “الجلوس على طاولة الكبار” والانضمام الى نادي القوى العظمى”، وإشغال الجبهة الغربية وإلهائها عن البرامج العلمية الاستراتيجية الحساسة، خاصة تقنية النّانُو وتقنية الصواريخ فرط الصوتية. وبالنسبة لاستعمال السلاح النووي في الشرق الأوسط فهي فرضية نظرية وغير واردة لا من قبل إسرائيل ولا إيران، فضلا عن وجود فتوى التحريم. فالسلاح النووي له ثلاثة مفاعيل، الأول انفجاري ميكانيكي محدود الأثر مكانيّا وتحقيقه ممكن بشحنات تفجيرية تقليدية، والمفعول الحراري المتمثل في الحرائق المرافقة للانفجار كذلك محدود الأثر مكانيّا ولا يتطلب أكثر من صواريخ تقليدية؛ اما المفعول الاشعاعي فهو الأخطر، ولا يمكن لمُستعمِل السلاح النووي من الجانبين ان يضمن عدم تضرره ذاتيا، لان الاشعاعات ستنتشر في كل المنطقة. وبالنسبة للمختصين في الشأن الإيراني، يعتبر الشك في نية السعي لاكتساب السلاح النووي مدخلا للتفاوض مع القوى الغربية حول غيره من الملفات، لكنّ اكتسابه او استعماله غير ممكن لأنه يُفجُّر كل البنيان العقائدي للدولة ولولاية الفقيه؛ ولا ينسجم مع الحفاظ على الأمانة في انتظار المسيح والامام المهدي (صاحب الزمان في ادبيات الشيعة). ومن منظورٍ سُنّي، يمكننا كذلك الوصول لتحريم استعمال السلاح النووي، باعتماد آليّات الاستنباط الفقهي للمذاهب السنية التي لا تَغيبُ عنها فكرة الأمانة وانتظار المهدي، رغم الاختلاف حول مَنْهُوِيَّتِهِ.
التقارب السعودي مع إيران: العقائدي استبق السياسي
خلافا لما يراه البعض، فان التقارب الذي نتابع مؤشراته بين السعودية وإيران منطلقهُ الأساسي ليس سياسيا؛ وانما أصبح متاحا بسبب توفُّر أرضيةٍ عقائدية. فالعُقلاء في الدولة العميقة في الرياض، يُدركون ان مواصلة خوض حروب الماضي بالدفاع عن إرث إسلامي مُثقَل بالفِتن والخلافات التي اختلط فيها العقدي بالسياسي، وخاصة الجدال حول معاملة الدولة الاموية والعباسية لآل البيت واحفادهم، ليس من أصول الدين في شيء. وبمتابعة ما يجري من تعديلات في عدة مجالات بالمملكة، يُستنتجُ نوعا من الرجوع الى الحنبلية النّقية الأولى. ولا شكّ، ان هذا يقوي وضع المملكة في البيت السّني المعتدل- المالكي الاشعري والحنفي الماتريدي والشافعي والصوفي – ويُجَسِّرُ الروابط مع البيت الشيعي. وفي المملكة العربية السعودية، أصوات تدبّرت ودرست ووسّعت افق بحثها واستدلالها، مثل الباحث حسن بن فرحان المالكي وأساتذة مقتدرين غيره، يمكن الاستفادة منهم للقيام بمراجعات تُعيدُ المذهب الحنبلي الى أصوله، وتفتح الباب للتّلاقي مع السُّنة المعتدلة المجتهدة التي ترفض الانغلاق المذهبي. فأغلبية السُّنة تَشتَرك مع الشيعة في “الآلْبَيتّية”، أي حُب اهل البيت وتبجيلهم والاهتداء بخُلقهم، بقطع النظر عن الاختلاف في تفاصيل العصمة من عدمها وغيرها من المعتقدات.
المنطقة العربية بين الاستهداف وقلّة الاستراتيجيات الجامعة
مصير المنطقة العربية يبقى مفتوحا على الكثير من الاحتمالات، فدول عديدة مطالبة بمراجعة منطلقات تحليل الوضع ومرتكزات بناء الموقف وثوابت الآداء المرحلي والمستقبلي؛ ولا يجب ان تُفاجأنا خرائط إعادة دمج الجغرافيا، التي تتداولها مراكز التخطيط الاستراتيجي في الغرب، إذا رأيناها تُفعّل على المدى المتوسط او البعيد. ولعل ما يجري في غزة والضفة وجنوب لبنان وسوريا خير دليل على ذلك. والمتابع للمنطقة العربية، يقف على خطورة الاستهداف الذي يتربص بها، ويُستغرب في المقابل غياب استراتيجيات جامعة للتصدي. فالعمل العربي المشترك والاسنادُ من منظمة المؤتمر الإسلامي، لا يُفعِّل ما يكفي من عناصر القوة المتاحة لصدّ الاعتداءات او بالحد الأدنى ردع الأعداء لوقف التهديدات.
وإنّ المقلق فيما تجاهر به إسرائيل من أطماع في جوارها، هو دور الدول الكبرى المشبوه والتي تُشجعها ضمنيا. فالتّواطؤ الأمريكي والصيني والروسي والهندي، في التعامل مع كسر إسرائيل لمحرّمات السلامة الترابية للدول، قد يرجَع لكونها مستفيدة من السوابق التي توفرها إسرائيل، بتجاوز محرمات قانونية دولية ظُنّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية انها مُسلّمات تحظى بإجماع دولي. ولا ريب، انه في زمن أصبحت فيه التعددية القطبية امرا مقضيّا، وامام عالم يحكمه اقتصاد السوق المُعَولَم وصعوبة تنافس الأقطاب الفاعلة دون احتكاك محفوف بالمخاطر، قد يكون الحل بالنسبة لهذه القوى المهيمنة في فتح المجال للتمدد الجغرافي وتطويع الجوار الرّخو. فالولايات المتحدة استعادت السيطرة على قناة باناما، ولا تُخفي الرغبة في ضم كندا وغرينلاند، وتَبتزُّ أوروبا بالحماية مقابل حرية العمل العسكري على اراضيها. اما روسيا، فضَمَّت بلاروسيا بإخراجٍ قانوني يُبقي للأخيرة استقلالا دَوليا ظاهريا؛ وتمكنت موسكو الى حد الان من ضم خُمس اكرانيا، واطماعها في جورجيا وأرمينيا وترانزنيستريا ودول البلطيق ليست خافية. والصين تعمل على تطويع تايوان وتضغط لاستردادها، وتتربص بالدول الميكروسكوبية المجاورة التي تضمّ أغلبيات صينية. اما الهند، فعينها على ما أمكن من باكستان وبنغلادش، خاصة إذا تمادت سطوة الهندوس المهووسين باسترجاع امجاد الماضي.
وختاما، يمكن الجزم بإمكانية خلط الأوراق والتصدي للتحديات التي تطرحها عدوانية إسرائيل، خاصة بالاسترشاد بالتاريخ وبتجارب الصراعات السابقة، والامر يتضح بناء على مؤشرات عديدة أهمها:
- عدم تناسب الطموحات الجغرافية للكيان مع مقدراته الديمغرافية التي تتناقص باستمرار، بفعل تراجع الهجرة الإيجابية وفقدانه ِلخبراته من الطبقات الليبرالية، التي تغادر هروبا من ضبابية الأفق وهشاشة الوضع الأمني وسطوة اليمين المتطرف.
- الفضاءات التي يتم تطويعها بالقوة الجوية، خاصة في جنوب لبنان وسوريا، لن تكون آمنة بريّا لإسرائيل لصعوبة تثبيت السيطرة الميدانية.
- دروس الالتحام المباشر مع المقاتلين في غزة وجنوب الليطاني ستفرض على الالة الحربية للاحتلال مراجعة حسابات التمدد الميداني امام كلفة العتاد والافراد.
- المشاريع الاستراتيجية التي كانت تُغذّي أطماع بعض الدول كالهند في لعب دور محوري في الشرق الأوسط، قد انسدّ أفقها بالسيطرة النارية للحوثيين على المنافذ البحرية للأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فضلا عن غلق حزب الله المجال لتَفرُّد ميناءِ حيفا بالاستقرار في المنطقة.
- ان توفقت الثلاثية السعودية الباكستانية الإيرانية في التنسيق البنّاء، قد نرى انفراجا في العلاقة السعودية الحوثية، وربما يُخفَّفُ الضغط على المقاومة الفلسطينية واللبنانية والاقرار ضمنيّا بدورها كجدار صد متقدّم امام مساعي التوسع الإسرائيلي في المنطقة.
أ. حامد بن إبراهيم/ استشاري في العلاقات الدولية
https://shorturl.fm/oOSRP